| |||||
إضراب 14 دجنبر 1990: المجريات والدروس
|
............................................
البديل الجذري // لماذا لا نصغي لمن جندتموهم للقتل يوم 14 دجنبر 1990؟
لعلع
الرصاص في كل مكان، جثث المنتفضين منتشرة
في كل شارع وزقاق وأمام البيوت، وحظر
التجول يعم المدينة… كان ذلك إبان 14/15/16
دجنبر
1990
بمدينة
فاس.
من
عايشوا تلك الانتفاضة الشعبية لهم حكايات
متفاوتة حسب موقع ومكان الحضور.
وجلها
تنسف كل التقارير التي دبجتها الجهات
الموالية للنظام سواء تلك التي نصبت تحت
اسم لجنة تقصي الحقائق في تلك المرحلة أو
ما ذهبت إليه تقارير من باعوا ضمائرهم
بعد الالتحاق بصف النظام لهندسة وتجميل
العهد الجديد.
لكن
حكايات أحد الجنود المتقاعدين، من المغرب
المنسي، عن بشاعة الجريمة التي ارتكبها
النظام في حق الشعب المنتفض بمدينة فاس،
عقب الإضراب العام الذي شهدته المدينة،
كانت أقوى بكثير، حيث يقول:
"أخذونا
من الثكنة من دون أن نعرف إلى أين، قاموا
بالتدقيق في هوياتنا ومن منا من أبناء
مدينة فاس أو نواحيها.
كانوا
يأمرون أبناء فاس والنواحي بالبقاء.
وأغلب
من وقع عليهم الاختيار كانوا من الجنوب
أو الشرق أو المناطق البعيدة جدا.
بعدها
أمرونا بأن نلبس الجلباب العسكري وسلحونا
بهراوات من خشب مغروس في رأسها مسامير
حادة.
بمجرد
وصولنا لمدينة فاس، أنزلونا..
المجموعة
التي كنت متواجدا في صفوفها بحي "بن
دباب"
كانت
سماؤها تمطر بالحجارة من جهة جموع غفيرة
من السكان الساخطين.
وقد
بدا على وجوههم علامات السخط والغضب من
الجحيم الذي أصبحوا يعيشونه من سياسات
الحسن الثاني.
كانت
مهمتنا هي تفريق التجمعات بعدما أخلى
البوليس والمخازنية الساحة لأنهم لم
يستطيعوا السيطرة على الوضع.
شكلنا
عدة مجموعات وبدأنا الهجوم على عدة جهات
خصوصا الساحة القريبة من "سينما
الشعب"
التي
احتلتها جموع المنتفضين.
لكن
القوة والحماسة التي كان يتمتع بهما
الشباب جعلتنا نتراجع مرارا خصوصا أنهم
كانوا يمطروننا بالحجارة، مثل زخات المطر.
من
خلال تلك الاصطدامات، لقي العديد من
الشباب المنتفضين مصرعهم بعدما تلقوا
ضربات قاتلة بالعصي المسلحة بالمسامير.
وحينما
لم ينفع تدخلنا، أمرتنا القيادة بالانسحاب
إلى الخلف.
بعدها
مباشرة حلت بعين المكان شاحنات عسكرية
محملة بالجنود مسلحين بالبنادق الرشاشة
وكان في إحدى الشاحنات رشاش آلي تم توجيهه
صوب الجموع الغفيرة من الناس الساخطين،
بدأ إطلاق النار بغزارة وبدأت الأجساد
تتساقط الواحد تلو الآخر.
بعدها
أمرونا بالتقدم نحو مكان تلك الجثامين،
وبدأنا نجمعها في سيارات الجيب والشاحنات.
وأثناء
نقلها، قاموا باختيار عناصر معينة وموثوقة
لديهم ليرافقوا الشاحنات حيث سيتم الدفن
في مكان ما..
والأمر
الذي أثر في نفسيتي كثيرا هو أنهم كانوا
يضعون بعض الجرحى ممن يعانون من إصابات
بليغة في العربات ليتم دفنهم إلى جانب
الموتى، لقد شاهدت بأم عيني كيف أن بعض
العناصر القيادية في الجيش كانوا يأمروننا
بوضع هؤلاء مع الموتى، ورغم توسلات الجرحى
لإنقاذهم من الموت إلا أن قلوب القادة
العسكريين كانت قاسية كثيرا.
صدقني،
لم أستطع النوم لعدة شهور بعدما شاهدت
تلك الكارثة، صور القتلى لا زالت تطاردني
لحدود الآن أثناء النوم وحتى عندما أكون
صاحيا.
لقد
أصبت بانهيار نفسي، ورغم كل محاولات
الأطباء العسكريين معالجتي لكن لم أستطع
الخروج من تلك الحالة، وهو ما دفعهم إلى
إقالتي من الجيش، لكوني أشكل خطرا عليهم،
ومنحوني تقاعدا نسبيا هزيلا.
الكثير
من الناس يظنونني مجنونا، لكن الحقيقة
هي أن ما شاهدته في ذلك اليوم المشؤوم ظل
عالقا في ذاكرتي ولم أظن يوما أن الجيش
الذي من المفروض أن يحمي الحدود من
التهديدات الخارجية سيقوم بتلك المجزرة
ويواجه مواطنين عزلا لا يحملون الأسلحة
ويطلق عليهم النار بدم بارد…".
هكذا
كانت حكاية أحد الجنود الذي عايش الجريمة
البشعة التي ارتكبها النظام القائم في
حق أبناء مدينة فاس المنتفضين.
وهذه
القصة ما هي إلا الشجرة التي تخفي غابة
الجريمة ووحشية "الإبادة
الجماعية بشكل أدق".
وهناك
العديد من القصص التي يرويها أبناء المدينة
ممن كانوا شهودا وضحايا في نفس الوقت،
كما العديد من الأطفال والشباب اختفوا
إبان الانتفاضة ولم يظهر لهم أثر إلى
يومنا هذا، ومنهم من لازال يعاني من عاهات
سواء التي خلفها إطلاق الرصاص أو مخلفات
الاعتقالات والأحكام القاسية.
خلال
سنة 2007
تم
اكتشاف عدة مقابر جماعية للمئات من الضحايا
الذين سقطوا تحت زخات الرصاص والقصف
المدفعي الذي واجه به النظام الهمجي
الانتفاضة المجيدة، وأبرز هذه المقابر
عثر عليها عمال البناء بحديقة "جنان
السبيل"
قرب
المحطة الطرقية وأخرى بـ"باب
الكيسة"
القريبة
كذلك من المحطة..
ولازالت
العديد من المقابر الجماعية للمئات من
الشهداء لم يتم الكشف عنها بعد، والنظام
يعلم جيدا مكانها.
لكن
حجم الجريمة يتجاوز بكثير ما ذهبت إليه
بعض التقارير الحقوقية أو الرسمية (هيئة
الإنصاف والمصالحة)،
لأن إطلاق الرصاص عمّ كل أحياء المدينة
وفي كل شارع وزقاق، كان هناك قناصة يطلقون
النار على كل من ظهر أمامهم سواء كانوا
نساء أو رجالا أو أطفالا أو شيوخا أو
شبابا…
لقد
ظل صوت الرصاص يسمع لمدة يومين متتاليين
من الانتفاضة، بحيث كانت هناك عدة محاولات
من لدن المناضلين لإعادة تنظيم الانتفاضة
ومواجهة الجيش، لقد كان الشعب غير خائف
من الرصاص وكان الناس يواجهون الجيش من
السطوح بالحجارة بوسائلهم البسيطة والتي
مكنتهم من دفع الجنود الهمجيين للتراجع،
كما يحكي أحد المناضلين الذي عايشوا
الانتفاضة من بدايتها إلى أن أخمدتها
نيران البنادق والمدفعية الثقيلة.
ويضيف
أنهم كانوا يحاولون استجماع القوى وتحفيز
الناس على الخروج من جديد ومواجهة الجيش،
وكل محاولة كانت تنتهي بمحاصرة المكان
وسقوط ضحايا جدد، إلى أن بسطت قوات القمع
(الجيش
والقوات المساعدة وقوات التدخل السريع..)،
بعد استقدام فرقة "اللواء
الخفيف"،
السيطرة على الوضع الذي انتهى بإعدام
المئات من الشهداء رميا بالرصاص، ودفنوا
في مقابر جماعية مجهولة.
الصورة
لقبور حيث دفنت رفات شهداء انتفاضة 14
دجنبر
بعدما عُثر عليهم في مقابر جماعية ولم
يتم التعرف على هوياتهم
واليوم،
وبعد مضي 24
سنة
على المجزرة الرهيبة والتي ستبقى وصمة
عار في جبين النظام، لا زالت مدينة فاس،
كما هو شأن باقي المدن المناضلة والمناطق
المناضلة، تعيش على إيقاع الحرب المعلنة
من النظام على الجماهير الشعبية وقواها
المناضلة بأساليب وتكتيكات ووسائل إجرامية
أكثر حدة من "العهد
القديم".
تيار
البديل الجذري المغربي
.C.A.RA.M
14 دجنبر
2014
....................................
شهادة: إضراب 14 دجنبر.. يوم لعلع الرصاص وتفشى القتل والتخريب في فاس
— 28 أكتوبر, 2014
صلاح الطويل
قبل 14 دجنير 1990 بيوم واحد. ونحن شباب في منتهى الحماسة والإندفاع، نوزع المناشير على المواطنين، وندعوهم للمشاركة في الإضراب العام، لإسقاط الحكومة ورموزها الفاسدة. كنا حذرين في تعبئتنا
للجماهير الشعبية. بحكم جحافل البوليس السري الذي كان يراقب حملاتنا ويلتقط من بيننا كل من صادفه وهو يوزع المناشير ويدعو الناس إلى الإضراب.
ورغم الحيطة والحذر، ومراوغات “الحناش” في دروب وأزقة مدينة فاس. لم يسلم منا عدد من الرفيقات والرفاق بالشبيبة الإتحادية بمدينة فاس من الإعتقال. ورغم ذلك استمرت تعبئتنا وحملتنا حتى ليلة الإضراب العام.
عند نهاية التعبئة الشاملة للدعوة إلى الإضراب، وفي آخر ليلة قبل الإضراب العام. جاءت تعليمات القيادة الإتحادية لكل المناضلين، تحثهم على عدم مغادرة بيوتهم في يوم الغد، وبأن مهمتهم وحملتهم التعبوية قد انتهت. ربما خوفا على المناضلين من الإعتقال، أو ربما أن القيادة الحزبية، كانت على علم بما سيقع في اليوم الموالي، فلذلك وجب الأخذ بالحذر. لكنها كانت تعليمات لا تعنيني، وشخصيا لم أفهمها في حينها، لكونها كانت غامضة بالنسبة لي، وجعلتني أنام وتحت وسادتي عدد من الأسئلة، لم أجد لها أجوبة إلا في يوم الغد. يوم الإضراب العام، الذي دعت إلهه النقابتان، الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والإتحاد العام للشغالين. وطبعا لم يكن شيئا مشاركا إسمه الإتحاد المغربي للشغل، لأن هذا الأخير كان آنذاك، “بورصاويا” كما كان ينعته الإتحاديون القدماء، وضعيفا جدا، ولا دور له في الساحة، سوى التعايش مع الباطرونا وتأييد تعليمات النظام.
نحن الآن في صباح 14 دجنبر، اليوم الخالد في الذاكرة الجماعية لكل ساكنة مدينة فاس. فحتى الساعة العاشرة صباحا والأمور تسير بشكل طبيعي وعادي، رغم أن الأمر لم يكن عاديا في نظر النظام، أمام الإجماع الذي حصل بين كل الشرائح. من مواطنين، وتجار، وحرفيين، وموظفين، ورجال التعليم، وكل القطاعات الحيوية، وغير الحيوية، على التجاوب والمشاركة في هذه الإضراب العام، خصوصا بمدينة فاس. وهذا ما لم يعجب المخزن. فكان عليه أن يفسد للشعب فرحته بهذا النجاح، ويفسد عرسه النضالي التاريخي، ويبحث عن مقالب لتبرير عدم تلبية المطالب التي كانت من وراء هذا الإضراب الناجح. فقام بفبركة أحداث درامية دامية، قادها بنفسه في الميدان.
في البداية، وبحكم أن الإضراب كان ناجحا، فلم تكن لدى الناس، أية نية أو رغبة في المواجهة مع الأمن أو العسكر، أوتخريب المنشآت، وإحراق ممتلكات الناس، ومرافق الدولة، الإدارية والسياحية والسيارات والأبناك. إلا بعد ظهور عناصر بوليسية مدنية ملثمة، من ضمنها مشبوهين، كانوا محسوبين على نقابتي الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والإتحاد العام للشغالين. هم من شرعوا في البداية في إشعال النار وتحريض الناس على مشاركتهم في التخريب. ثم انصرفوا، تاركين القطعان الجاهلة والقاصرة، وأنصار الكرة، وأصحاب السوابق، لوحدهم. لإتمام ما بدأوه من تخريب وإشعال للحرائق. فكان السيناريو محبوكا والإخراج مضبوطا، كما أراده النظام. لتلفظ شاحنات الجيش، جحافلها من العسكر، لتنتشر في كل الشوارع والأحياء، مدججة بكل الوسائل الحربية القتالية، ولا تنقصها سوى الصواريخ.
مدينة فاس تُطبخ على نار غير دافئة. صوت الرصاص يلعلع في كل مكان. في الشوارع والأزقة، بل حتى الدروب العتيقة الضيقة. العسكر يطلق النار عشوائيا، على كل الناس الذين كانوا خارج بيوتهم، و على كل من قادته خطواته، ليكون في قلب الأحداث. ولم تفلت حتى جموع المراهقين العشوائية، والصغار الذين كانوا وكأنهم في لعبة حرب مسلية. كيف لي أن أنسى الطفلة الصغيرة التي كانت تطل من نافذة منزل أسرتها بحي الجنانات؟ إطلالة لم تدم سوى دقائق معدودة، لتجمد في مكانها على مكب النافذة، والرصاصة بين الحاجبين الصغيرين، شاهدة على دناءة المؤامرة، ورداءة السياسة. ولن أنسى كذلك أحد أبناء “حومتي” الذي لم يخرج سوى للبحث عن “قابلة” لزوجته، التي أدركها مخاض الولادة. فإذا بالرصاص يخترق جسده، ليترك وراءه زوجة وصبيا بكرا، كان في طور الولادة. وهناك المئات ممن لقوا حثفهم برصاص النظام، لا لشيء سوى لتواجدهم صدفة في عين الشهادة.
هرولت إلى منزلنا بباب الفتوح. فصعدت رفقة والدي رحمه الله، إلى سطح المنزل، لمعاينة مايقع حولنا. السماء رمادية مظلمة. الدخان وروائح البارود تنبعث من كل الفضاءات والأمكنة. أينما وليت وجهك، ترى الدخان والحرائق، وأصوات القرطاس مستمرة، وكأننا في موسم قنص الأرواح. وفجأة، ظهرت طائرات الهليكوبتر وهي تتراقص في السماء. والدي رحمه الله، وبحكم أنه كان جنديا سابقا، وعاش حروبا ومعارك في الكونكو ولاندوشين والصحراء والجولان. ولاعتقاده، بأن هذه الطائرات التي تحوم فوقنا سوف تقصفنا. فقد سارع وهوى بجسده على السطح، ثم بدأ يحبو على مرفقيه وركبتيه، كما يفعل الجند والعسكر أثناء المعارك والقتال. الموقف بالفعل كان مضحكا ومسليا، لكن هول الكارثة أغلق شهية الضحك والمزاح، أمام “معقول الرصاص والقرطاس، ديال بصاح”.
المواجهة غير المتكافئة ظلت متواصلة، بين أبرياء عزل بدون سلاح، وجحافل من القوات تمتلك كل عتاد الحروب والقتال. وصوت الرصاص مستمر، بمنطقة باب الفتوح وما جاورها من الأحياء المهمشة. ولم يتوقف إلا تدريجيا مع ظلمة المساء. فلم يعد لأحد وجودا في الشوارع، غير الجند ودباباتهم، وجثث الشهداء. ولأن المغرب كان ما يزال غير “فيسبوكي”، كان عرضة للتعتيم والكذب آنذاك. فقد كان لابد أن يطل علينا مقدم نشرة الأخبار الممسوخ، الذي أشبعه المواطنون شتما وسبا، ليخبرنا عن أحداث عرفتها مدينة فاس، خلفت إصابات في صفوف بعض المخربين، فيما لقي شخص واحد حتفه. كيف؟ شخص واحد؟! في المنطقة التي أسكنها، وحدها، دون غيرها من المناطق الأخرى، لقي فيها المئات من المواطنين حتفهم، بما فيهم أطفال أبرياء، تهمتهم الوحيدة، تواجدهم صدفة في الشارع. ليكونوا ضحايا لعبة سياسية قذرة، يخجل منها الشيطان.
يوم 15 دجنبر. خمدت النيران، وبدأ الناس يتسللون من بيوتهم إلى الشارع، لتتبع الأخبار، والمعلومات حول من قتل ومن لازال على قيد الحياة. خرجت مثلهم أراقب الحياة ما بعد يوم الرصاص. فوجدت منطقة باب الفتوح، محاطة بالجند والعساكر. والدبابات الحربية منتشرة حول محيط المنطقة. حتى بعض المقاهي، التي فتحت أبوابها بعد الإضراب العام بحي واندو بباب الفتوح، وجدت نفسها وجها لوجه مع أفواه المدافع وبنادق العسكر. وبموازاة مع هذه العسكرة، كانت هناك حملة اعتقالات واسعة في صفوف المئات من شباب المنطقة، والأحياء الهامشية المحيطة بها. أغلبهم جاهلون، ومنحرفون، وذوو سوابق، استغلوا من طرف المخزن وبعض المشبوهين المحسوبين على النقابتين الداعيتين للإضراب العام. ليكونوا حطب المرحلة، بعد استغلالهم في إفساد النجاح الكبير والتجاوب الشعبي الباهر الذي حققه الإضراب العام.
أغلب الذين اعتقلوا، كانوا قبل القصف بالرصاص، يحرقون وينهبون ويسرقون، وبالفعل رأيتهم وهم يخرجوهم من منازلهم، مرفوقين بما سرقوه من أثاث وتحف وزرابي لفنادق سياحية، ومعدات إلكترونية، وعددا من غنائم الحرب والقتال. لكن ورغم هذه الثهم. فقد تم اعتبارهم مناضلين ومعتقلين سياسيين. عكس ما يقع الآن لمناضلي حركة 20 فبراير، وما يتعرضون له من تلفيق التهم وطبخ الملفات المتعلقة بجرائم الحق العام، لا علاقة لها، لا بالمطالب ولا بالنضال.
نعم هؤلاء دخلوا السجن كمعتقلين سياسيين. ويضحكني كثيرا أن من ضمن المعتقلين، أحد إبناء حينا المعروف ب “حلاوة” وهو شخص مختل عقليا، ورغم ذلك وجد نفسه معتقلا سياسيا دون علمه. فتم الحكم عليهم بأحكام سجنية قاسية، لاستثمارهم في البداية من طرف الحسن الثاني وإدريس البصري، كورقة ستظهر فيما بعد، للعب بها فيما يتعلق بالعفو الشامل لكل المعتقلين السياسيين، أمام أنظار العالم. وسيغادرون السجن جميعهم فيما بعد كمعتقلين سياسيين. بينما الخصوم السياسيون الحقيقيون، ظلوا في السجون يتكبدون المعانات.
هذه الورقة. لا تمثل سوى رأيي ورؤيتي بعيني الخاصة لمحطة 14 دجنبر الخالدة، كما عشتها في محيطي وليس في الأماكن المجاورة الأخرى. فأحياء بنسودة وسيدي بوجيدة وبن دباب والجنانات وكل الدواوير المحيطة، عرفت وعاشت، ما عاشته منطقتي عدوة الأندلس باب الفتوح. وبالطبع كانت هناك أحداث مغايرة ومواجهات ذات طابع سياسي عنيف،عرفتها جامعة ظهر المهراز، في يوم إضراب 14، بعد الهجمة المخزنية الشرسة التي تعرض لها المناضلون القاعديون، قبل الزج بهم في السجن.
ورغم كل شيء. تبقى محطة 14 دجنبر، من أهم المحطات الشعبية النضالية الخالدة، في ذاكرة الشعب المغربي. وبفضلها جنى المغاربة والوطن، مكاسبا سياسية وحقوقية ثمينة، لولا التفريط في هذه المكاسب، من طرف النخب السياسة والنقابية ذاتها التي دعت إلى إضراب 14 دجنبر، لتعود بنا وبالمغرب، إلى عهد ما قبل هذا الإضراب.
* المصدر: بتصرف عن موقع “ماروكاني”.
صورة الصدارة: من أرشيف الإنترنيت.
قبل 14 دجنير 1990 بيوم واحد. ونحن شباب في منتهى الحماسة والإندفاع، نوزع المناشير على المواطنين، وندعوهم للمشاركة في الإضراب العام، لإسقاط الحكومة ورموزها الفاسدة. كنا حذرين في تعبئتنا
للجماهير الشعبية. بحكم جحافل البوليس السري الذي كان يراقب حملاتنا ويلتقط من بيننا كل من صادفه وهو يوزع المناشير ويدعو الناس إلى الإضراب.
ورغم الحيطة والحذر، ومراوغات “الحناش” في دروب وأزقة مدينة فاس. لم يسلم منا عدد من الرفيقات والرفاق بالشبيبة الإتحادية بمدينة فاس من الإعتقال. ورغم ذلك استمرت تعبئتنا وحملتنا حتى ليلة الإضراب العام.
عند نهاية التعبئة الشاملة للدعوة إلى الإضراب، وفي آخر ليلة قبل الإضراب العام. جاءت تعليمات القيادة الإتحادية لكل المناضلين، تحثهم على عدم مغادرة بيوتهم في يوم الغد، وبأن مهمتهم وحملتهم التعبوية قد انتهت. ربما خوفا على المناضلين من الإعتقال، أو ربما أن القيادة الحزبية، كانت على علم بما سيقع في اليوم الموالي، فلذلك وجب الأخذ بالحذر. لكنها كانت تعليمات لا تعنيني، وشخصيا لم أفهمها في حينها، لكونها كانت غامضة بالنسبة لي، وجعلتني أنام وتحت وسادتي عدد من الأسئلة، لم أجد لها أجوبة إلا في يوم الغد. يوم الإضراب العام، الذي دعت إلهه النقابتان، الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والإتحاد العام للشغالين. وطبعا لم يكن شيئا مشاركا إسمه الإتحاد المغربي للشغل، لأن هذا الأخير كان آنذاك، “بورصاويا” كما كان ينعته الإتحاديون القدماء، وضعيفا جدا، ولا دور له في الساحة، سوى التعايش مع الباطرونا وتأييد تعليمات النظام.
نحن الآن في صباح 14 دجنبر، اليوم الخالد في الذاكرة الجماعية لكل ساكنة مدينة فاس. فحتى الساعة العاشرة صباحا والأمور تسير بشكل طبيعي وعادي، رغم أن الأمر لم يكن عاديا في نظر النظام، أمام الإجماع الذي حصل بين كل الشرائح. من مواطنين، وتجار، وحرفيين، وموظفين، ورجال التعليم، وكل القطاعات الحيوية، وغير الحيوية، على التجاوب والمشاركة في هذه الإضراب العام، خصوصا بمدينة فاس. وهذا ما لم يعجب المخزن. فكان عليه أن يفسد للشعب فرحته بهذا النجاح، ويفسد عرسه النضالي التاريخي، ويبحث عن مقالب لتبرير عدم تلبية المطالب التي كانت من وراء هذا الإضراب الناجح. فقام بفبركة أحداث درامية دامية، قادها بنفسه في الميدان.
في البداية، وبحكم أن الإضراب كان ناجحا، فلم تكن لدى الناس، أية نية أو رغبة في المواجهة مع الأمن أو العسكر، أوتخريب المنشآت، وإحراق ممتلكات الناس، ومرافق الدولة، الإدارية والسياحية والسيارات والأبناك. إلا بعد ظهور عناصر بوليسية مدنية ملثمة، من ضمنها مشبوهين، كانوا محسوبين على نقابتي الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والإتحاد العام للشغالين. هم من شرعوا في البداية في إشعال النار وتحريض الناس على مشاركتهم في التخريب. ثم انصرفوا، تاركين القطعان الجاهلة والقاصرة، وأنصار الكرة، وأصحاب السوابق، لوحدهم. لإتمام ما بدأوه من تخريب وإشعال للحرائق. فكان السيناريو محبوكا والإخراج مضبوطا، كما أراده النظام. لتلفظ شاحنات الجيش، جحافلها من العسكر، لتنتشر في كل الشوارع والأحياء، مدججة بكل الوسائل الحربية القتالية، ولا تنقصها سوى الصواريخ.
مدينة فاس تُطبخ على نار غير دافئة. صوت الرصاص يلعلع في كل مكان. في الشوارع والأزقة، بل حتى الدروب العتيقة الضيقة. العسكر يطلق النار عشوائيا، على كل الناس الذين كانوا خارج بيوتهم، و على كل من قادته خطواته، ليكون في قلب الأحداث. ولم تفلت حتى جموع المراهقين العشوائية، والصغار الذين كانوا وكأنهم في لعبة حرب مسلية. كيف لي أن أنسى الطفلة الصغيرة التي كانت تطل من نافذة منزل أسرتها بحي الجنانات؟ إطلالة لم تدم سوى دقائق معدودة، لتجمد في مكانها على مكب النافذة، والرصاصة بين الحاجبين الصغيرين، شاهدة على دناءة المؤامرة، ورداءة السياسة. ولن أنسى كذلك أحد أبناء “حومتي” الذي لم يخرج سوى للبحث عن “قابلة” لزوجته، التي أدركها مخاض الولادة. فإذا بالرصاص يخترق جسده، ليترك وراءه زوجة وصبيا بكرا، كان في طور الولادة. وهناك المئات ممن لقوا حثفهم برصاص النظام، لا لشيء سوى لتواجدهم صدفة في عين الشهادة.
هرولت إلى منزلنا بباب الفتوح. فصعدت رفقة والدي رحمه الله، إلى سطح المنزل، لمعاينة مايقع حولنا. السماء رمادية مظلمة. الدخان وروائح البارود تنبعث من كل الفضاءات والأمكنة. أينما وليت وجهك، ترى الدخان والحرائق، وأصوات القرطاس مستمرة، وكأننا في موسم قنص الأرواح. وفجأة، ظهرت طائرات الهليكوبتر وهي تتراقص في السماء. والدي رحمه الله، وبحكم أنه كان جنديا سابقا، وعاش حروبا ومعارك في الكونكو ولاندوشين والصحراء والجولان. ولاعتقاده، بأن هذه الطائرات التي تحوم فوقنا سوف تقصفنا. فقد سارع وهوى بجسده على السطح، ثم بدأ يحبو على مرفقيه وركبتيه، كما يفعل الجند والعسكر أثناء المعارك والقتال. الموقف بالفعل كان مضحكا ومسليا، لكن هول الكارثة أغلق شهية الضحك والمزاح، أمام “معقول الرصاص والقرطاس، ديال بصاح”.
المواجهة غير المتكافئة ظلت متواصلة، بين أبرياء عزل بدون سلاح، وجحافل من القوات تمتلك كل عتاد الحروب والقتال. وصوت الرصاص مستمر، بمنطقة باب الفتوح وما جاورها من الأحياء المهمشة. ولم يتوقف إلا تدريجيا مع ظلمة المساء. فلم يعد لأحد وجودا في الشوارع، غير الجند ودباباتهم، وجثث الشهداء. ولأن المغرب كان ما يزال غير “فيسبوكي”، كان عرضة للتعتيم والكذب آنذاك. فقد كان لابد أن يطل علينا مقدم نشرة الأخبار الممسوخ، الذي أشبعه المواطنون شتما وسبا، ليخبرنا عن أحداث عرفتها مدينة فاس، خلفت إصابات في صفوف بعض المخربين، فيما لقي شخص واحد حتفه. كيف؟ شخص واحد؟! في المنطقة التي أسكنها، وحدها، دون غيرها من المناطق الأخرى، لقي فيها المئات من المواطنين حتفهم، بما فيهم أطفال أبرياء، تهمتهم الوحيدة، تواجدهم صدفة في الشارع. ليكونوا ضحايا لعبة سياسية قذرة، يخجل منها الشيطان.
يوم 15 دجنبر. خمدت النيران، وبدأ الناس يتسللون من بيوتهم إلى الشارع، لتتبع الأخبار، والمعلومات حول من قتل ومن لازال على قيد الحياة. خرجت مثلهم أراقب الحياة ما بعد يوم الرصاص. فوجدت منطقة باب الفتوح، محاطة بالجند والعساكر. والدبابات الحربية منتشرة حول محيط المنطقة. حتى بعض المقاهي، التي فتحت أبوابها بعد الإضراب العام بحي واندو بباب الفتوح، وجدت نفسها وجها لوجه مع أفواه المدافع وبنادق العسكر. وبموازاة مع هذه العسكرة، كانت هناك حملة اعتقالات واسعة في صفوف المئات من شباب المنطقة، والأحياء الهامشية المحيطة بها. أغلبهم جاهلون، ومنحرفون، وذوو سوابق، استغلوا من طرف المخزن وبعض المشبوهين المحسوبين على النقابتين الداعيتين للإضراب العام. ليكونوا حطب المرحلة، بعد استغلالهم في إفساد النجاح الكبير والتجاوب الشعبي الباهر الذي حققه الإضراب العام.
أغلب الذين اعتقلوا، كانوا قبل القصف بالرصاص، يحرقون وينهبون ويسرقون، وبالفعل رأيتهم وهم يخرجوهم من منازلهم، مرفوقين بما سرقوه من أثاث وتحف وزرابي لفنادق سياحية، ومعدات إلكترونية، وعددا من غنائم الحرب والقتال. لكن ورغم هذه الثهم. فقد تم اعتبارهم مناضلين ومعتقلين سياسيين. عكس ما يقع الآن لمناضلي حركة 20 فبراير، وما يتعرضون له من تلفيق التهم وطبخ الملفات المتعلقة بجرائم الحق العام، لا علاقة لها، لا بالمطالب ولا بالنضال.
نعم هؤلاء دخلوا السجن كمعتقلين سياسيين. ويضحكني كثيرا أن من ضمن المعتقلين، أحد إبناء حينا المعروف ب “حلاوة” وهو شخص مختل عقليا، ورغم ذلك وجد نفسه معتقلا سياسيا دون علمه. فتم الحكم عليهم بأحكام سجنية قاسية، لاستثمارهم في البداية من طرف الحسن الثاني وإدريس البصري، كورقة ستظهر فيما بعد، للعب بها فيما يتعلق بالعفو الشامل لكل المعتقلين السياسيين، أمام أنظار العالم. وسيغادرون السجن جميعهم فيما بعد كمعتقلين سياسيين. بينما الخصوم السياسيون الحقيقيون، ظلوا في السجون يتكبدون المعانات.
هذه الورقة. لا تمثل سوى رأيي ورؤيتي بعيني الخاصة لمحطة 14 دجنبر الخالدة، كما عشتها في محيطي وليس في الأماكن المجاورة الأخرى. فأحياء بنسودة وسيدي بوجيدة وبن دباب والجنانات وكل الدواوير المحيطة، عرفت وعاشت، ما عاشته منطقتي عدوة الأندلس باب الفتوح. وبالطبع كانت هناك أحداث مغايرة ومواجهات ذات طابع سياسي عنيف،عرفتها جامعة ظهر المهراز، في يوم إضراب 14، بعد الهجمة المخزنية الشرسة التي تعرض لها المناضلون القاعديون، قبل الزج بهم في السجن.
ورغم كل شيء. تبقى محطة 14 دجنبر، من أهم المحطات الشعبية النضالية الخالدة، في ذاكرة الشعب المغربي. وبفضلها جنى المغاربة والوطن، مكاسبا سياسية وحقوقية ثمينة، لولا التفريط في هذه المكاسب، من طرف النخب السياسة والنقابية ذاتها التي دعت إلى إضراب 14 دجنبر، لتعود بنا وبالمغرب، إلى عهد ما قبل هذا الإضراب.
* المصدر: بتصرف عن موقع “ماروكاني”.
صورة الصدارة: من أرشيف الإنترنيت.
................................
بالصور .. بعد ربع قرن على اندلاعها .. حينما أُطلق الرصاص على سكان فاس
معلومات عن الصورة : صورة ارشيفية
14 دجنبر تاريخ
موشوم في ذاكرة فاس، خاصة وأنه يحيل على الأحداث المأساوية التي عرفتها
بعض شوارع المدينة العلمية، بعد استجابة جزأ من السكان للإضراب الذي دعت
إليه الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وذلك لحل
ملفات الموقوفين عن العمل والمطرودين في سنوات 1979 و1981
وقد
نزلت القوات العمومية لفض الإضراب العام، واستعملت السلاح، مما خلف سقوط
عشرات من الضحايا مجهولي المصير، وقد قدرتهم الحكومة حينها، والتي كان من
بين أعضائها إدريس البصري وزيرا للداخلية، في خمسة أشخاص، فيما قدرتهم
اللجنة البرلمانية التي تشكلت حينها لتقصي الحقائق في 42 شخصا، قبل أن يصل العدد إلى 109 حسب التحريات التي قامت بها هيئة الإنصاف والمصالحة.
وقد كشفت الهيئة ذاتها عن مقابر هؤلاء الضحايا حيث دفن 99 منهم بمقبرة باب الكيسة، علما أنها لم تكشف عن أسماء المدفونين في كل قبر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق