المتابعون

الجمعة، 11 ديسمبر 2015

الشهيد محمد بنونة-محمود-


أقدار


( الفصل الختامي من كتاب أبطال بلا مجد . فشل ثورة )

" يموت الجبناء قبل موتهم الأخير ،
أما الشجعان فيبقون أحياء حتى بعد موتهم "
شكسبير

لا ننجو من العقاب عندما نحرك الماضي. لا سيما عندما يقضي هذا الماضي على بعض الأساطير ويفسح المجال أمام أبطال لم يكن أحد يعرف وجودهم . استقبل البعض هذا البحث الذي وصل الى نهايته بتردد وشك. واستقبله البعض الآخر بحماس واهتمام. ما هي الخاتمة التي يمكن ان نضعها لهذا البحث؟ الآن، بعد ان تغيرت المناهج والقناعات، يصعب ربط حبل المنطق من جديد. ان تتبع الذهن لمسار الفرص الضائعة تمرين صعب شاق. كم هي الطموحات التي ضاعت وسط أفاق غامضة ؟ كم هي الخصال البشرية التي تم إفسادها ؟ ماذا تبقى من الموتى. ومن الأحياء. ومن الموتى-الأحياء؟ هل هناك من مغزى يجب الاحتفاظ به كدرس يعلمه ذلك القدر المتناقض لهؤلاء الرجال الذين قرروا ، رغم ذلك ، توحيد مصيرهم ؟ إلا إن كان الجواب يكمن بالضبط في الصمت العنيد الذي طالما غطى هذا التاريخ المأساوي ؟
وسط شساعة الجبل الواسعة، كان محمود يعيد ويتدرب على موته. وهو النهاية الحتمية لملحمة مأساوية . كان حافزه هو طموحه الذي كان يجهل المجد الشخصي. إنه عمل يدعو الى كفاح يستمر حتى انمحاء الذات نفسها.
ولكن التاريخ يتقن نسج الأقدار التي لا تكتمل والطموحات الخفية . انضاف محمود الى لائحة طويلة من شهداء الحرية. يموت في سن الخامسة والثلاثين. اصبح أحد الرجال الذين يضع اختفاؤهم خاتما على مصير أوسع من مصيره هو وحده .
هو من الرجال القلائل الشجعان، من ذوي القناعات الذين يحلمون بانعتاق رعايا يخدمون، او فرض عليهم أن يخدموا، ديكتاتورية مقدسة. إن القبول الذي اعتاد الانحناء والطاعة قد أبان عن حدوده . إذ إنه بعد ان أعياه هذا الكم الهائل من الاستعباد، عمل على إرساء مغرب حر حيث يمكن للفرد أن يصبح مواطنا. فضل محمود إذن خيار السلاح للقضاء على سيادة الرعب الذي يدين له حكم الملكية المغربية المطلق بعمره المديد، والذي كان محمد أوفقير واحمد الدليمي وادريس البصري رجاله الذين يثيرون الرعب، والناجعين الفعالين في الآن نفسه . اختار محمود هذا الاختيار بصدق وإخلاص.
لا شك أن محمود من خلال قراءاته العديدة، اكتسب القناعة بان الحضارات تمر وان الأحلام الطوباوية تفشل. كان يعرف أن كل نصر هو نصر عابرٌ ، وان الزمن يستبدل الإيديولوجيات الواحدة بالأخرى . ولكن لا تهم التقسيمات والتمييزات داخل المجتمع عندما ينحني شعب بكامله، أُبقي عليه يائسا جاهلا خاضعا خانعا أمام سلطة مطلقة تدوس عليه وهي تتبجح؟ انه أمر جميل بالنسبة للمؤرخين. وحدها ثورة يمكنها أن تختصر الطريق تجاه مجتمع أكثر عدلا و أوفر كرامة . أن يكون المرء ثوريا، يعني أنه انتصر على شكوكه ليختصر عدة عقود من الإهانة والخنوع في التوسل كيما ُيتصدق عليه بحرية . وهكذا قرر محمود أن يدفع بآخر الشجعان الى عمل يمكنه أن يحقق كل شيء أو لا شيء.

قدر أمة
والمفارقة هي أن عمله كان بداية مسار تطبيع سياسي طويل ومكلف. هل سمع القصر ناقوس المعركة الاخيرة يدق ؟ كل الأمور توحي بذلك. ذلك انه وفي هذه المرة ، لم يأت ناقوس الإنذار بالخطر من "جنود يبحثون عن مصائر وطنية" بل من أعماق الشعب. ويحتفظ التاريخ بعد مرور بضع سنوات بكون صفحة" سنوات الحديد والنار" قد ُطويت. وفضل القصر عندها الفساد على القمع.
بدأ تعلم الديمقراطية الذي يدينه التوريط. عوضت الانتهازية الخوف. فأخذت أطر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تتغنى جماعة بالحب القديم ، الذي عاد ثانية ، الحب بين القصر والمعارضة . لقد اصبح الزمن زمن التنكرات والصمت وغيرهما من الانحطاطات. انها معزوفة من مديح يتجاوب تجاوبا غريبا مع ترتيب فرنسي يستملح على وجه الخصوص عبارات المجاملة والجمل القصيرة التي تتظاهر بالتفكير العميق والتي كان ينطق بها ملك يثقن توزيع أمارات رضاه توزيعا أنيقا. فكانوا يحيون فيه صانع مغرب ُتشتمُّ فيه رائحة الاستعمار .
وحفاظا على المظاهر لم يمنع القصر نفسه من أن ينسب الى نفسه الكفاح من أجل تحرير فلسطين . ففي اللحظة التي كان فيها رجال محمود، رفاق الفدائيين الفلسطينيين في السلاح ُيعدمون رميا بالرصاص، كانت مفرزة من القوات المسلحة الملكية تشد الرحال الى الجولان تحت قيادة اللواء ( الجنرال) الصفريوي .
بيد أنه وراء الشعارات، كان الواقع عنيدا. ذلك أن موعد اللقاء بين المغرب وتاريخه ، وهو اللقاء الذي لم يحدث ، دشن مآسي المستقبل.
في يوم 10 ماي في سنة 1973 ، وبعد أن استخلص مصطفى الوالي الدروس من الفشل، أخذ مصيره بيده وأسس البوليزاريو.
وفي يوم 18 دجنبر من سنة 1975 ، سقط عمر بنجلون برصاص فريق مسلح وقع بالدم صعود مذهب جديد: الاسلاموية. إن فشل ثورة آخر فرصة هذه قد زج بالبلد في صراع مع خروج غير كامل من الاستعمار ومع إفلاس اجتماعي سوف يغذيان على التوالي حربا دامت ثلاثين سنة واسلاموية زاحفة . سوف يمضي المغرب عقودا وعقودا من اجل اختتام فشل الاختيار الثوري .

قدر قائد
لم يغير الحداد والألم اللذان يتخللان مسيرة الفقيه البصري من مسيرته شيئا. فرغم عودة الحظوة والعناية للفقيه البصري، فانه سوف يحلم حتى النهاية بالمساء الموعود الذي سوف يبتلع نظاما غاص في الغلط ليجعل عذا جديدا يحل. ان همه سوف يبقى دائما الثار المستحيل. تكسو مساره سلسلة من الاعمال الفاشلة، التي كانت عديدة وفيرة، مما جعل البعض، ممن انتابهم الشك يقولون بأن هذا الفشل لم يكن محض صدفة.
وفي خريف حياة الفقيه البصري ، تاب الرجل واخذ يطالب بالشرعية التاريخية مادام لم يستطع أن يوجه مستقبل هذا التاريخ. إن حرس الذاكرة قد بدؤوا وضع راياتهم الخاصة بملامح الغد؟ وقد جاء هذا في حينه. إذ ان الفقيه البصري لا يرفض هذه الصفحات البطولية التي تطعم رواية حياة حتى تأخذ طابعا أكثر مأساوية .
عندما عاد إلى بلده ، كانت له حظوة وسائل الإعلام ، وتحدث بإطناب بعبارات مغلفة أنيقة عن دوام الروابط المتينة التي تربط العرش بالشعب المغربي. وهو الخطاب الذي يرتهن ارتهانا بظروف اللحظة. وها هو ذا الرجل قد بات يتجنب مواجهة ماضيه [7] . وهو ان تحدث عن هذا الماضي ، إنما يفعل ذلك من اجل تغيير طبيعة هذا الماضي أو تلميع ساعات المجد السالفة. ففي حوار طويل نشر في شهر يناير من سنة 1999 [8] ، وضع مميزاته وخصائصه على أنه رمز تاريخي. ولكن رجل دسائس الكواليس والعمل السري لم يكن مرتاحا في هذا التصنيف. ولأن الزمن قد فعل فعله، فانه حاول دون توفق أن يشرح بأن عمليات مارس 1973 جرت دون علمه. وهكذا فإن دخول محمود ورجاله، وكذا انطلاق العمليات، كلها أمور حدثت دون علمه. زد على ذلك انه لم ينتظر الأوقات الضائعة التي وفرها له تقاعده وعزلته ليتحدث عن التاريخ كما يطيب له . وهاهو سنة 1974 ، في رسالة [9] بعثها الى عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، والتي حررها في رد فعل على سياسة التسويف الظرفية التي فرضت في الجزائر العاصمة، وهو الأمر الذي كان يعطي انطباعا عما كان سيحدث في مؤتمر الحزب في سنة 1975 ، حيث تم رفض الاختيار الثوري . في هذه الرسالة يتحدى الفقيه البصري الذين عزموا على دفنه بسرعة.
وبخصوص ما وقع في شهر مارس 1973 ، كتب الفقيه البصري :" بين الفترتين دعيت الى ليبيا، بعد استئناف العلاقات بين البلدين، في مقابل إغلاق الإذاعة الموجهة الى الشعب المغربي . كان الرفيق ايت قدور يرافقني في هذه الرحلة وتزامنا مع هذا الحدث ، كان الشهيد محمد بنونة قد دعا الى اجتماع في باريس من اجل البث في عدة مشاكل لها علاقة بالتنظيم العسكري. ولكني، فيما يخصني انا شخصيا، كان علي أن أتغيب عن هذا الاجتماع نظرا للمشاكل التي كانت تتخبط فيها ليبيا . فيما يخص هذه النقطة بالذات، يمكن للرفيقين ايت قدور وبنحيي ان يدليا بمضمون الاجتماع سابق الذكر وبالتدابير التي اتخذت.عند عودة ايت قدور، اخبرني بعد ان وقع ما وقع ،بان محمد بنونة ومجموعة من المناضلين قد عادوا الى المغرب . وقد عاش الرفاق الاخصاصي ومحمد ايت قدور ومحمد بنيحيى هذه الأحداث " . ثم يختم :" إن العمل المسلح باسم الجبهة، قد اقترح ودخل حيز التنفيذ انطلاقا من باريس وخطة 3 مارس حررها محمد بنيحيى".
من غير المجدي أن ندفع بالتفسير ابعد من هذا لنرى بأن الأمر هنا يهم تمرينا لمراجعة الأحداث . وبادئ ذي بدء ، لم تتوقف برامج راديو ليبيا الا في صيف سنة 1973 ، أي بعد موت محمود وليس إبان حياته. إنها إحدى التنازلات التي انتزعها عبد الرحمن اليوسفي من الفقيه البصري خلال الاجتماع-الحصيلة الذي انعقد في الجزائر العاصمة. وبعد ذلك، لك يكن لاجتماع باريس هدف عسكري وإنما كان له هدف تنظيمي واستراتيجي وليس هدفا عسكريا. ويكفي حضور مشاركين لا يتقاسمون أي صلاحية عسكرية داخل التنظيم للتدليل على ذلك. أما " العمل المسلح" ، فانه لم يتم تصوره في باريس ، في غياب الفقيه البصري ، ولكن في ليبيا، وبحضوره. وأخيرا، كيف يمكن أن نتصور أن الفقيه البصري علم " بعد أن وقع ما وقع" برجوع محمود ورجاله في حين أن هذا الرجوع تم بمساعدة الميد، وهو ساعد الفقيه البصري الأيمن في تلك الفترة . عندما نعرف ما كان يحس به محمود تجاه الميد، يمكن أن نخمن بسهولة انه كان سيزيحه ان هو تصرف بمبادرة خاصة منه . وأما الباقي فليس سوى أمور ُرتبت " في ما بعد" وأُسست على حقائق مغلوطة يتم به استنكار عمل أُعتبر عملا غير مسؤول.
ُذهل أولئك الذين كانوا يعتقدون انهم كانوا يقاتلون من أجل مبادئ:
كيف سمح الفقيه البصري أن ينكر دوره ومسؤوليته في حين أن أكثرنا ما زال حيا [10] ؟
منذ ذلك الحين، واللغز ما يزال قائما ، وكان حامل اسمه العائلي السيئ الذكر ، وزير الداخلية السابق ادريس البصري ، يريد أن يجعل الظنون مادية محسوسة، فدخل سنة 1984 في مفاوضات انتهت بعد بضع سنوات بعودة المعارض الدائم . انه اتصال يواصل ما قام به وسيط مناسب: البشير الفكيكي، الروح المنبوذة في مؤامرة 1973 والذي اصبح بعد ذلك برلمانيا.

قدر حزب
بالنسبة الى العديدين، فان تبنؤ دهكون قد تحقق . فعبد الرحمن اليوسفي، عكس الفقيه البصري، تأقلم مع شر آخذ في الزوال. مقتنعا بأنه في آخر المطاف سوف يكون النصر له. وهكذا وفي فبراير 1998، قبِل دعوة الحسن الثاني بان يشكل حكومة. ولكن، وكما هو شأن الفقيه البصري، سوف يخصص مجمل طاقاته لإنقاذ المظاهر. التحق بديوانه اليازغي وعجول وايت قدور وبنبحيى. ومع ذلك، فان أول التحولات السياسية وقع قبل ذلك. وهكذا فان المهدي العلوي قد جوزي بمنصب سفير، والاخصاصي اصبح برلمانيا، وماسين عاملا على اخنيفرة وهي المدينة التي وضع فيها قنابل سنة 1973.
منذ إعادة تشكيل الحزب سنة 1975 ، كان له الوقت الكافي ليتحول ويتغير. فربح من احترام القصر بقدر ما خسر من مصداقيته عند الجماهير . غير اسم الحزب فاصبح الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتحق وسط الفرحة العارمة إبان المسيرة الخضراء بالمعارضة الدستورية . وفيما يخص ممارسة السلطة ، فانه لم يعد ينافس الملكية ، ولكن اصبح ينافس الأحزاب الأخرى. لقد بات جزءا لا يتجزأ مما كان المهدي بنبركة يسميه " معارضة صاحب الجلالة" . واصبح يحاور اليوم أحزابا كان بالأمس يعتبرها أحزابا في خدمة القصر. إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قد غير شكل عمله. ومن ثمة فانه ضحى برباطه النضالي مقابل تصور باهت للخلافات السياسية . لقد فشل الاتحاد الاشتراكي في استئصال الشر من جذوره وهاهو الآن يحاول أن يعالج أثر هذا الشر . وهكذا فان الحزب تاه وسط تردداته ، فالتحق بتوافق سياسي هش. والحزب عندما تسلم القضايا والشؤون سنة 1998، لم يعد يملك شيئا من تلك المنظمة الجماهيرية التي كانت تؤطرها نخبة البلد الفكرية ، والتي كانت بالأمس مصدر فخره واعتزازه. لقد بات حزبا للأعيان مرغما على أن يتعامل مع أوليغارشية المخزن السياسية – الاقتصادية.
باي هدف؟ في المواجهة المتشنجة بالأمس ، حيث كان الدفاع عن الحريات يختلط بالدفاع من أجل بقاء الفرد حيا ، كان الرهان لا يقبل أي إبهام أو غموض . والآن بعد أن اصبح المهم هو إعطاء مضمون لحرية يزعم بأنها ممكنة، تعطلت الآلة. إن الحزب الذي كان يعشق الحرية بلا قيد او شرط ، وذلك لأنه يرفض الحكم المطلق اكثر مما كانت له ثقافة ديمقراطية حقيقية ، ان هذا الحزب ، ولأنه لم يعرف كيف يرفع تحديات التغيير فانه قد ضاع وسط خطابات عصبوية بالية .
هذا في الوقت نفسه الذي تعرف فيه الاقطاعية تراجع الانتقادات تجاهها، بدافع من ملك جديد شاب ومرحب ، سوف يقود حملة عبات لها بقوة وسائل العلام، ومن ثمة حملة تجميع وائتلاف، ضد الشرور والآلام التي كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قد تطوع من قبل لمحاربتها: البؤس المستوطن والأمية والتخلف وحرية التعبير وحقوق الإنسان وغيرها. والحال انه، واكثر من أي وقت مضى ، ما زال احتكار المخزن وهيمنته، وهو الذي أبقى البلاد في الفقر الاقتصادي والبلاهة السياسية بتبذيره للموارد تبذيرا، ما زال عائقا أمام الحداثة التي قد تعطي للمغرب مكانته في الألفية الثالثة.
يبقى الإرث الثوري الثقيل المزعج. لقد تغير الزمن وفقدت القضية من طراوتها ومن جدتها، لصالح "آفاق ديمقراطية" أكيد أنها لا تحسم الأمور الا قليلا، ولكنها تورط اقل. وفيما يخص جيل الأطر الجديدة الذي ينعم بحياة لم تعرف تقلبات سنوات الحديد والنار ، فان الثورة أخذت مظهر إحياء ذكريات حنين متقادمة. توحي لهم ثقة مستقيمة الرأي بواقعية قوية سرعان ما تربط الكفاح من اجل الحرية بصبيانية سياسية. ان تفكيرهم متعب ، فهم ينظرون الى الناجين، الشاهدين على التمزق ،في احسن الأحوال، نظرة تعاطف يمتزج بالتسامح، وفي أسوأ الحالات، نظرة اللامبالاة.
ان الفكرة نفسها القائلة بان رجالا كافحوا في المغرب من اجل بديل للملكية لا يمكن التفكير فيها ولو تفكيرا سطحيا لا قناعة فيه. ومن ثمة، فان الحزب تبنى أطروحة تيار ثوري تحرك في استقلالية عن الحزب الذي يبقى متشبتا بدوام الملكية. لقد سمحت التواءات الزمن بهذا النوع من التكيف الذي لا يكلف كثيرا. بيد انه سنة 1973 ، كان هذا الطرح يملك من القوة ما كانت تملكه خرافة الملك الطيب الواقع ضحية حاشية سيئة النية. في ذلك العهد، كان الفرق البسيط ضربا من التكتيك، وأما الهدف فكان لا يقبل أي مجادلة. كان يجب القضاء على الملكية لتنظيف المغرب من إدارة متقادمة يتحكم فيها إقطاعيون يساندون الاستعمار الجديد.
تسبب فشل سنة 1973 في الفصل بين تيارين يتميزان بحسب قراءتهما للإحداث "التيار المغامر" بالنسبة الى البعض ، الذي كان يسارع الى ان يتميز عن فشل ثقيل مزعج ومورط، و" عمل ينذر ويحذر" من توجه نحو الراديكالية مستقبلا، بالنسبة الى البعض الآخر. زادت هذه الازدواجية من تغذية انفصال سياسي سوف يحسن القصر استغلاله وذلك بالتحكم في معارضة أصابها مرض النسيان الذي كان يشكل مع ذلك النجاة . توجد في هذا التوافق السياسي الذي باركه النسيان مفارقة مذهلة. لما أزاح الحزب الماضي باسم توافق سياسي، من المفروض ان يضع قواعد تناوب نحو الديمقراطية، الم يعد الحزب مهددا بان يدفن تراثا من الكفاح يمكنه ان يعطي لهذه التجربة مداها التاريخي الواقعي ؟ الا إن كان الحزب، ودون أن يتجرا على أن يعترف بالأمر لنفسه هو ، قد اختار" التناوب الممنوح" بهدف واحد وهو ضمان بقاء المخزن بعد اختفاء الحسن الثاني، ما دام لم يستطع تقديم بديل قابل للحياة والاستمرار؟ إن بتر الذاكرة يبقى عندها الوسيلة الوحيدة لإخفاء الفشل.

قدر جيل

إن موت رفاق توفيق ومن بينهم إعدام اقرب رفاقه دهكون وادريس الملياني سوف يسكن طويلا ذهن الرجل. لن هذا الاختفاء يحمل حداد نجاته هو نفسه. إن إحساسا محتدا هائجا سوف ينتصر على قدرته على المقاومة المعنوية، فخلال لقاء قصير في مقهى بالدار البيضاء، كان توفيق ذا حماس محزن مؤثر، وعينين مبللتين حزينتين، كان توفيق يرمز الى صورة جيل كامل من المناضلين. ان الملحمة المأساوية ، ملحمة فشل الاختيار الثوري ، قد أورثتهم حاضرا شوهه الماضي.
واما المصير الذي يعرف كيف يتعامل بدون رحمة مع المغمورين في التاريخ ، فانه لم يرحم كذلك مستقبلهم. بعد أن عفي عن احمد بنجلون استقبله عند خروجه من السجن يوم الجمعة 12 دجنبر 1975 أخوه عمر، كان اللقاء قصيرا فبعد ستة أيام ، أي يوم 18 دجنبر مات عمر بنجلون مقتولا أمام باب بيته. ورغم أن احمد بنجلون نجا فانه ظل مصدوما، وعكس الآخرين فانه لا يجد في فشل الحلم الثوري أي تبرير للهدنة السياسية، ولانه لم يقبل بنصف انتصار فانه عاد الى السجن سنة 1980 و1981 و1983 لـ" يتعامل معه " نفس جلاديه.
وفي نهاية الثمانينات غادر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأسس حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي. والتحق به صديقاه في دمشق اليزيد وخالد. بعد أن غادر هذا الاخير تدريجيا التشكيلات السياسية بسبب الغيظ أكثر مما كان بسبب الخلافات السياسية، احتفظ بموقف متحفظ مترددا فيما يخص الهوية السياسية لكفاحه. في باريس سنة 1995 عشية رجوعه الى المغرب، بعد أزيد من ثلاثين سنة من المنفى، كان ما يزال يقدم نفسه على انه مقاوم .
سكن الإصرار نفسه الكوار الذي اصبح ، بعد أن خرج من السجن سنة 1975، عضوا في المكتب السياسي لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي. بالأمس كما هو شأن اليوم ، مازال ُيظهر عزمَ ذلك الذي يتبع الطريق الذي تحدده له قناعته .
بالنسبة الى البعض كانت العودة الى الأمور الواقعية بطيئة وأليمة. انسحبوا من ميدان السياسة بعد تفكير منعزل . تسلل إليه الوعي بأنهم كانوا مثاليين عازمين على الرقي بالشعب المغربي الى مصير لربما لم يكن هو قدره. ان تجربة الفشل أليمة قد جعلت ذاكرتهم ذاكرة انتقائية ، فاخذوا يجترون تاريخا لم يهضموه جيدا . أصبحت حياتهم مسرحا للظلال تنعكس فوقه أشباح الماضي. وغدت الأحقاد المكدسة ميراثهم المشترك، ان تحدثوا فإنما يتحدثون وكلهم شك، يستعملون كلمات مراوغة فيها غيظ صامت أثقلته المرارة . ان ما يستهجنونه هو موضوع فضولي ذاته أكثر مما يستهجنون أسئلتي، وكأن هذا الموضوع خيانة دون ان يستطيعوا تفسير أي خيانة هي . وعلى وجه العموم لا يقدم الحديث والحوار شيئا، ما دام المحاور عازما على ألا يكون الأمر سوى تبادل عادي لعبارات المجاملة.
ولكن الأسباب نفسها تؤدي أحيانا الى نتائج مختلفة . فبالنسبة إلى ايت قدور كذلك، فان التاريخ لم يتحسن مع مرور السنوات. لقد تكون عنده غيظ دائم ، فتحول ناسك الثورة الى مناضل بالذاكرة. والمفارقة هي ان تعليقاته السخية على هذه الملحمة تلزم الصمت في ما يخص المسالة الأساسية : دوره في إدارة التنظيم في سنة 1973. فكانت محاولاتي للحديث عن تفاصيل معينة تصطدم بتظاهره بأن الأمر يفاجئه. وعلى العكس من ذلك، كانت شهادته مرافعة لا رحمة فيها ضد الفقيه البصري: اختلاس وخيانة سياسية وولع بالأكاذيب.
وضمن الأقدار التي تحطمت ورميت في غياهب نسيان التاريخ هناك مصير الحسين المانوزي الذي ضاع في سجون القصر الملكي . فإضافة الى كون الحسين المنوزي كان إطارا في الكفاح المسلح، فقد كان أهم مذيعي راديو- ليبيا الذي كان يشعل النار في الملك وفي القصر. وعندما نعرف أن الحسن الثاني كان يمارس السلطة ممارسة شخصية خاصة، نخمن بسهولة ان الحسين المانوزي كان بالنسبة اليه ضيفا مرموقا. لما تعرف عليه بدار المقري العديد من المناضلين المعتقلين سنة 1973، ألصقت صورته على حيطان أزقة الرباط يوم 13 يوليوز 1975 : مطلوب للبحث لأنه هرب يوم 12-13 يوليوز . كان ضمن الهاربين أيضا المقدم (ليوتنو كولونيل) عبابو، أخ قائد الانقلاب، والمساعد(ادجودان) عقا، والقبطان الشلاط والمرشح لرتبة ضابط ( اسبيران) مزيرق، وكذا الاخوة بوريكات الثلاث، وهم وجود معروفة أخرى تواجدت داخل سجون الملك .
ولما القي القبض ثانية على الجنود، اعدموا وأرسل الاخوة بوريكات الى السجن -المقبرة تازمامارت الذي لن ينفلتوا منه الا في دجنبر 1991 . وأما عن الحسين المانوزي فليس هناك من خبر. سوف تشير مصادر بوليسية الى وجوده بالقيادة العليا للدرك الملكي بالرباط من سنة 1975 الى 1981 . وكان إفراغ سجن تازمامارت نهاية سنة 1991 قد ولد الأمل من جديد عند أقربائه: فقد تحدث مصادر شبه رسمية عن قرب إطلاق سراحه، ثم لا شيء.
وفي مارس من سنة 1998، وبعد تعيين حكومة عبد الرحمن اليوسفي ، وعدت"مصادر مرخص لها" بإطلاق سراحه عما قريب، ويوم 15 أكتوبر ظهر اسمه ضمن لائحة مختفين صرح بأنهم قد توفوا . انه اسم اصبح رقما مجهولا، بدون جثة وبدون قبر. وكما هو شأن المهدي بنبركة، فان أثاره سوف تختفي مع شيخوخة الذين عذبوا في عهد الحسن الثاني.
خاتمة
عدة مرات، كان الصحافي الذي يترجم لي كلام سيدي حمو يقف ليهدئ زوجة مرزوق. جرى الحوار داخل منزل، بعيد عن أنظار المتطفلين، ولكنه دام أزيد من الساعة الواحدة، فاخذ يجلب الجيران الذين حيرهم أمر وجودنا. كان الزوار غير المنتظرين، أما يستفسرون عن الإخبار وغما يطلبون خدمة ما، تضاعف عددهم. وكانت إشاراتهم المستفسرة تعبر في كل مرة فتحة الباب، تزايدت عصبية زوجة مرزوق، بدأ الصحافي يجد صعوبة في تهدئتها. وإما سيدي حمو فواصل حكايته غير مكترث بشيء، وأما مرزوق وهو الثوري السابق بكلميمة والذي يستضيف اجتماعنا هذا في بيته، فانه مدين بحياته لزوجته . فخلال 14 سنة من السجن الإرادي، استطاعت ان تحافظ على سر كانت حتى بناتها تجهلنه. وتتذكر إحداهن بكل بساطة أن أمها كانت تغسل الملابس خلال الليل، وان خبزة كانت تختفي بانتظام من الفرن.
فكانت أمها تشرح له الأمر قائلة :
انها خبزة المتسول.
عندما عاد مرزوق الى سطح الأرض سنة 1987 ، انجب فتاة ثالثة سماها حياة. بعد روى سيدي حمو تعطشي وفضولي خلال اللقاءات الثلاث الطويلة ، ودعني ورحل الى الرباط يوم 31 غشت من سنة 1996 ، وقال لي :
في المرة المقبلة زرني في تنغير، انني اسكن منطقة يحبها السياح كثيرا لان بها الكثير من الأشياء التي يجب اكتشافها.
انتبهت الى نبرة الاستهزاء التي تتخلل دعوته، غير انه لم تكن هناك من مرة مقبلة. فقد توفي سيدي حمو بعد ثلاثة أيام من ذلك اي يوم 3 شتنبر من سنة 1996. كان لا يفارق عصاه وجلبابه، اذ كان يعبر بهما عن إحساس عميق بالإهمال . عندما علمت بوفاته تذكرت ما كان يقوله عنه سنة 1973 سكان الأطلس:
انه يوجد في كل مكان ولا يوجد في أي مكان.
بعد انصرام ربع قرن على مرور هؤلاء الثوار من هذه الربوع الأطلسية، وجدتني اقتفي مسارهم ثانية. كنت اجهل ما الذي سوف اكتشفه، فاستسلمت لمفاجآت مظهر المنطقة البسيط. كان البؤس والكآبة لا يزالان هما نفسهما بدون شك كما كانا في السابق. منذ ذلك الحين خرب التصحر واحات النخيل التي كانت تحيط في السابق بالدواوير . وأصبحت اليوم تلال تنغير، حيث كانت تقفز الغزلان، وهي الطريدة التي كان يفضلها في الماضي موحا أولحاج، عارية جافة. ولكن هناك مع ذلك تقدم ملحوظ : أنشات منظمة غير حكومية ألمانية خطا كهربائيا يمتد حتى املاجو . وهناك عزاء آخر إن صح انه فعلا عزاء ، وهو ان المنطقة أصبحت القبلة المفضلة لهواة المشي في الصحراء وسباق السيارات.
كيف يمكن للمرء أن يفكر دون أن ينتابه الرعب بان هذه المناطق الخلابة، التي تبهر السياح، كانت مسرح مأساة سالت فيها دماء ودموع كثيرة؟ ان مرور الزمن الذي لا ينفتح على الذكرى ، يكشف حقيقة لم تتغير. انه شاهد صامت على المأساة التي وقعت هاهنا . في بعض الأماكن تظهر آثار القتال على حيطان بعض المنازل. وتبدو معنوياتالناجينالذين أُلتقي بهم داخل هذه المنازل معنويات سالمة. فقد عُذبوا وحرموا من حريتهم وانتزعت منهم ممتلكاتهم، ولكنهم يتبنون أعمالهم الماضية بفخر ويمدحون الشهداء الذين اختفوا مدحا كثيرا.
ومع ذلك فان استقبالهم مهما كان حارا، لا يمكن أن يخفي الحقيقة المرعبة ، إن مثالهم الأعلى قد ضاع وسط رجة عالم تصنعه واقعية سياسية لها نبرة الاعتراف بالعجز. إنها أرواح متقززة تنظر نظرة مرعوبة الى أعداء الأمس وهم يتبادلون أحاديث ملساء منافقة مع أولئك بالذات الذين كانوا يناشدونهم قديما القيام بالكفاح المسلح . اختلطت عليهم الأمور فلم يعودوا يفهمون شيئا مما يجري سوى أن هذا الغرام سوف يمدد طويلا عمر التهميش الذي يعيشونه.
ان مسارات الثورة قد تاهت في اللامبالاة، حاملة معها الذكرى الرهيبة لكفاح يحلم الكثيرون في سرهم أن يعود ثانية في أجواء أرحم. عند الحديث عن محمود تبتل أعينهم وتختنق أصواتهم، فيبصبح لمأساة بؤسهم المخبأة فجأة وجهُ: انه وجه إطار سياسي، كان إضافة الى هذا مهندسا ينتظره مستقبل زاهر. مهندس تقاسم معهم حياتهم لدرجة انه وهب حياته خدمة لتحريرهم. إنهم في حداد شجاع نبيل. حداد لن يشعروا به أبدا تجاه قائد سياسي آخر.
لتُعطَ الكلمة لذاكرة الماضي ، وسوف ترون أن هذه الذكرى لم تتوقف عن غزو واقع الزمن الحاضر .
(JPEG)
صفحات المقال : << 1 2


[1] ظهرت هذه الحركة في الحقيقة ، والأمر قد يبدو فيه مفارقة ولكن في الظاهر فقط، في شهر أكتوبر 1955 إبان مفاوضات اكس ليبان وتنحي ابن عرفة ، وهو السلطان الذي فرضته فرنسا في شهر غشت 1953 ، وعودة محمد الخامس المبرمجة (انظر الترتيب الزمني للإحداث في آخر الكتاب) . ترتبط هذه الحركة بكل تأكيد ، وهو الأمر الذي بات اليوم معروفا واضحا بعد أن مر زمن على تلك الإحداث ، بالكفاح الجزائري الذي سيصبح ضمنيا ، وحتى استقلال البلد المجاور ، وترتبط كذلك بالكفاح التقدمي من أجل اشتراكية المغرب المستقل.
[2] إن إعادة ترتيب رجال جيش التحرير الوطني لم تتم داخل القوات المسلحة الملكية فحسب ، أي داخل الجيش، بل كذلك داخل القوات المساعدة للمخزن المتحرك، الذي وضع تحت سلطة وزير الداخلية ، وفي الأمن المقرب من الملك ، المنبثق عن القصر ، وفي فرق البوليس الخاصة.
[3] لم يتفضل الفقيه البصري بمقابلتي رغم المحاولات العديدة
[4] نشرته يومية الاتحاد الاشتراكي لسان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
[5] نشرتها لوجرنال (الصحيفة ) عدد 145 ، يوم 25 نوفمبر – فاتح دجنبر 2000 . لم يعترف المعني بالأمر صراحة بالوثيقة ، لكنه كذلك لم يتنكر لها. هذا الصمت ، وباعتبار مضمون الوثيقة الخطير ، يحمل خاتم اعتراف ضمني.
[6] حوار للمؤلف مع احمد بنجلون .
[7] لم يتفضل الفقيه البصري بمقابلتي رغم المحاولات العديدة
[8] نشرته يومية الاتحاد الاشتراكي لسان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
[9] نشرتها لوجرنال (الصحيفة ) عدد 145 ، يوم 25 نوفمبر – فاتح دجنبر 2000 . لم يعترف المعني بالأمر صراحة بالوثيقة ، لكنه كذلك لم يتنكر لها. هذا الصمت ، وباعتبار مضمون الوثيقة الخطير ، يحمل خاتم اعتراف ضمني.
[10] حوار للمؤلف مع احمد بنجلون .
......................
 

مارس 1973.. فشل آخر الثورات المسلحة ضد نظام الحسن الثاني

مارس 1973.. فشل آخر الثورات المسلحة ضد نظام الحسن الثاني
قبل 41 سنة بالتمام والكمال غاب السكون عن المغرب وتحوّلت العديد من مناطقه، سواء القروية أو الحضرية، إلى ساحة لمطاردة مجموعة من المقاتلين الراغبين في إسقاط النظام وإقامة جمهورية مغربية. لعلع الرصاص وحلقت الهيلوكبترات وأُعْلِنت حالة استنفار في صفوف القوات العمومية، فلو نجح ما تمّ التخطيط له آنذاك من لدن الجناح الراديكالي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية لتغيّرت الكثير من المعالم في مغرب اليوم، ولأخذ الزمن مجرى معاكسا تماما لما يقع حاليا.
في مولاي بوعزة بخنيفرة بدأت المواجهات، واستمرت المطادرات لقرابة 6 أشهر حتى إلقاء القبض على آخر المحكومين بالإعدام. السياق لم يكن عاديا، وإنما يتعلق بصراع امتد لسنوات طويلة بين القصر الملكي ومعارضيه، خاصة الجناح الثوري للحزب الاتحادي بقيادة الفقيه البصري، والنتائج لم تكن هي الأخرى عادية، ما دام النصر الذي حققته القوات العمومية، أدى إلى إنهاء العمل المسلح في تاريخ المغرب الحديث، وأصاب في مقتل آخر الثورات المسلحة.
هسبريس تعود لثورة منسية انتهت قبل أن تبدأ.. هي لمقاتلين تباينت مساراتهم بين القتل والإعدام والهروب والجلوس على كراسي الدولة.. تلك القصص مؤلمة أراد لها المغرب الرسمي أن تُمحى من الوجود.. سند استذكارنا هو من لقاءات مع بعض المشاركين كعبد الله المالكي وإبراهيم أوشلح، وبعض الباحثين كأحمد ويحمان، وبعض المراجع كـ"الثورة الموءودة" لمحمد لومة و"أبطال بلا مجد" للمهدي بنونة، زيادة على مصادر أخرى قدمت لنا الكثير من المعلومات المفيدة.
لا ثورة دون سياق
للثورة شروط ولو كانت فاشلة، لذلك يمكن أن يعاد سياق هذه الأحداث إلى سنوات الخمسينيات، وبالضبط إلى حركة المقاومة المسلحة وجيش التحرير اللذان قاتلا من أجل استقلال المغرب ومنهما تكوّن عدد من المشاركين في هذه الثورة. إنهاء الدولة لهما بعد الاستقلال، دون تحرير بقية الأراضي المحتلة، والتشنج السياسي الواقع بين الأحزاب الوطنية والحسن الثاني، ثم الاعتقالات التي همّت بعض قياديي هذه الحركة وهذا الجيش جعلت عددا منهم يختار الرحيل نحو خارج البلاد، عاقدا العزم على العودة يوما ما وتحرير المغرب ممّا كان يراه مستعمرا جديدا.
حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان يعمل في هذه الفترة بمنطق "شِي يْكْوِي وْشِي يْبُخْ"، أي أن هناك أفرادا ينشغلون بالعمل السياسي كعبد الرحيم بوعبيد، وآخرون يخططون للعمل الثوري بقيادة البصري وسعيد بونعيلات وعبد الرحمان اليوسفي، دون نسيان كون المغرب قد عرف قبل 1973 محاكمات انتهت بإصدار أحكام بالإعدام، كمحاكمة مراكش سنة 1971، الشيء الذي زاد من حنق عدد من القيادات داخل التنظيم السري الذي ساعد في إرسال مجموعة من المغاربة إلى معسكرات تدريبية في الشرق العربي، ومن أشهرها مخيم الزبداني بسوريا الذي ضمّ العشرات من المغاربة الراغبين من جهة في القيام بالعمليات الفدائية ضد المصالح الإسرائيلية، ومن جهة أخرى العودة إلى المغرب من أجل التخلص ممّا عرّفوه بالنظام الرجعي.
أخطاء في التنسيق أنتجت ثورة معطوبة
حسب ما يحكيه عبد الله المالكي، أحد العائدين من أحكام الإعدام، فإن تسلل المقاتلين المغاربة القادمين من الشرق العربي كان في يناير 1973 عبر مدينة فكيك، كانوا حوالي 16 عنصرا تقريبا ركبوا على متن أربع سيارات، كل واحد منهم كان يمتلك رشاش كلاشينكوف مع أربعة خزان للذخيرة، ومن بين هؤلاء كان محمد بنونة وعبد الله المالكي والبشير الزين وسليمان العلوي وآخرون.
سبب الدخول قد يكون تنسيقا ميدانيا بين قادة التنظيم في الجزائر، ومنهم الفقيه البصري ومحمد بنيحيى ومحمد التوزاني، حسب ما تشير إليه عدد من المصادر، إلا أن محمد لومة، الباحث في الجماعات المسلحة، يضيف سببا آخر هو الضغط الكبير الذي مارسته السلطات الجزائرية على المقاتلين المغاربة من أجل الخروج من أراضيها، مشيرا إلى أن الجزائر كانت تريد آنذاك التعاون مع المغرب أمنيا، وذلك من خلال التنسيق ما بين الكولونيل المغربي أحمد الدليمي ومدير الأمن العسكري الجزائري قصدي مرباح.
حجم المقاتلين لم يتوقف فقط على القادمين من الجزائر، بل كذلك على عدد من العناصر المحلية، كعائلة أمزيان وموحا أولحاج بخنفيرة، ليتم الاتفاق على التقسيم إلى أربع مجموعات: الخاصة بخنيفرة يتزعمها إبراهيم التيزنيتي، والخاصة بتنغير يقودها المقاوم سيدي حمو عبد العليم، والتي بكلميمة بقيادة محمد بنونة، وفكيك بزعامة محمد ساعة، وستعمل على التنسيق مع خلايا أخرى موجودة في المدن كالدار البيضاء والرباط ووجدة وآسفي.
وعكس ما يعتقده الكثيرون، فالهجمات لم تبدأ خلال شهر مارس وإنما في فبراير 1973، عندما هاجمت خلية وجدة حارس أمن في 2 فبراير، ثم قتلت حارسا آخر في الخامس منه، لتأتي بداية شهر مارس وتعرف وضع قنبلة تحت خشبة مسرح محمد الخامس بالرباط، وقنبلة أخرى في "دار أمريكا" بالدار البيضاء تمهيدا لانفجارهما في عيد العرش الذي يوافق الثالث من مارس، ولم يتم ذلك لضعف شحنة التفجير، إلا أن هذه الأحداث لم تكن لتجعل الخلايا المسلحة في الأطلس والصحراء الشرقية تباشر هجومها لولا تسرع خلية خنيفرة، لأن الأوامر الميدانية كانت متمثلة في انتظار التعليمات من القيادة المستقرة بالجزائر، والتركيز على تعبئة الساكنة.
حسب محمد لومة، فإن المقاتليْن محمد أومدة وأمهروق أمزيان هما من كان يصران على بدء الهجوم، مشيرا إلى أن قائدهم الميداني التيزنيتي أرسل مقاتلا إلى كليميمة للتشاور مع قائدها الميداني، إلا أنه عاد بجواب مشوش لا يعكس رفض القائد بنونة للهجوم، كما أن المهدي بنونة يتحدث في كتابه بأن جواب سيدي حمو عبد العليم من تنغير، كان كذلك رفض الهجوم. لذلك قرر التيزنيتي ورفاقه بدء الهجوم معتقدين أن بقية الخلايا سترافقهم، لتكون ليلة الثاني من مارس، بداية الأحداث المؤلمة.
من خنيفرة إلى مولاي بوعزة، الهدف مهاجمة ملحقة للقوات المساعدة، كانت الأمور لتسير في كثير من السرية لولا إجهاز المقاتل أيت عمي لحسن على الحارس. بعد دقائق من البحث تعود المجموعة المقاتلة من حيث أتت دون أي غنيمة، بعدما لم تجد أية أسلحة.
عنما وصلت الأخبار إلى بنونة بأملاكو نواحي كلميمة، تأكد أن الخلايا فقدت أهم عنصر في حربها، وهو المفاجأة، وبالتالي قسم وحداته إلى قسمين، أرسل واحدا منها إلى إملشيل (منهم البشير الزين ومحمد بلقاضي)، بينما اختار أن يُبقي الثاني الذي يترأسه في أملاكو داخل منزل ل"مقدم" متعاون معهم هو عدي شان، كما أرسل في نفس الوقت عنصرين من أجل جلب بعض الأسلحة المخبأة، ومن بين هاذين العنصرين، كان يتواجد "بيّاع" اسمه حدو أومهرير قرر أن يخبر قائد المنطقة بوجود رجال مسلحين يبتغون الثورة.
هزيمة المقاتلين أمام القوات العمومية
أُعلنت حالة من الاستنفار في مختلف المناطق الأربع حتى في تنغير وفكيك التي انتشرت فيها القوات العمومية بشكل مكثف. وفي مشهد درامي مؤثر، القوات العمومية تهجم على منزل عدي شان بأملاكو، في الداخل لم يكن سوى بنونة وزميليه فريكس وسليمان بعد إلقاء القبض على صاحب المنزل، المعركة الدامية تستمر لساعات، استبسل فيها المقاتلون، غير أن وصول تعزيزات جديدة خاصة من هيلوكبتر حاصرت المكان، عجّل بمقتل بنونة وسليمان، بينما تم إلقاء القبض على فريكس المُصاب.
بقية القصة غاية في التراجيديا لأصحاب الثورة، فبالنسبة لخلية تنغير تم قتل وتوقيف عدد من المقاتلين، أولا قُتِل الحسين أيت زايد وعدد من رفاقه، وبعد أسبوع تم إلقاء القبض على أخيه عمر، وفي شهر أبريل تم إلقاء القبض على دحمان سعيد موحا نايت بري في قرية 'تيكلفت" بأزيلال بعدما قام شيخ القبيلة بعمل مقلب لهما، محمد بوشاكوك ولحسن التغجيجتي أعتقلا في منطقة تونفيت، عبد الله المالكي يصمد حتى شهر شتنبر الذي اعتقل فيه ببني ملال.
في خنفيرة، أول من ألقي عليه القبض هو موحا أولحاج، صهر الملك الحسن الثاني، الذي نال تعذيبا خطيرا أمام أنظار أسرته، التزينني ورفاقه الهاربين قاوموا ببسالة واستمر هروبهم إلى غاية السادس من ماي، حيث مات أولاً محمد أسكور في أجدير الذي دافع ببسالة عن رفاقه وسمح لهم بالهروب قبل يفرغ رشاشه من الرصاص، ليتناول حبة من السم عجّلت بنهايته. وفي الثامن من مارس، وبالضبط في مدينة ميسور، يتنازل التيزنيتي ومحمد بن الحسين نفس الحبة بعدما وقعا في حصار من القوات العمومية، تمّ نقلهما على وجه السرعة إلى مستشفى قريب من أجل إنقاذهما، فلم ينجُ سوى بن الحسين بعدما قاموا بغسيل لمعدته من آثار السم. وفي أواخر الشهر، أيت عمي لحسن وامبارك برو، يُعتقلان في تالسينت على بعد 40 كيلومترا من الحدود الجزائرية.
في الدار البيضاء، تم إلقاء القبض على عمر دهكون في ال22 من مارس، وفي تلك الأيام، يتم اعتقال 13 محاميا من المنتسبين إلى الحزب الاتحادي، من بينهم عمر بنجلون، توفيق الإدريسي، ومحمد اليازغي.
حاول بعض القياديين إنقاذ الثورة خلال التاسع من مارس، إذ إن مصطفى الجدايني، قائد خلية وجدة توصل بحزمة من الأسلحة، إلا أن الخيانة لعبت دورها وتم إلقاء القبض على عدد من أعضاء التنظيم بمختلف المدن المغربية، وفي وجدة خلال ال20 من مارس، انفجرت أربع قنابل جديدة ضد بنايات إدارية، وبعدها بيومين يقع انفجاران في الناظور، غير أن هذه التفجيرات الجديدة، لم تكن سوى إعلانا عن اليأس وعن الهزيمة.
الهاربون إلى الجزائر
الأمر الذي أعطاه بنونة لأربع من رفاقه بالتوجه إلى إملشيل، كان سببا في إنقاذ اثنين منهم وهما البشير الزين ومحمد بلقاضي، فبعد مسار طويل من الهرب المتواصل، يستطيعان الوصول إلى الجزائر ولا زالا على قيد الحياة لحد الآن. كما استطاع أحد المقاتلين من كلميمة، وهو مرزوق، أن يهرب باتباع طريقة غاية في الغرابة، فقد عاش لمدة 14 سنة في قبو دون علم أحد باسثتناء زوجته، وقد اعتقد الجميع أنه مات أو هرب إلى الجزائر، إلى أن خرج من مخبئه سنة 1987.
من خلية تنغير، استطاع سيدي حمو عبد العليم ومحمد نايت الهاشمي الهرب بعد أن تعذر الاشتباه فيهما نظرا لكبرهما في السن ولانتحالها مجموعة من الصفات 'تاجرا عطارة'، ليلحقا بحدو اللوزي الذي هرب هو الآخر بطريقته الخاصة.
أما من خلية خنيفرة، فقد كُتب الهرب لأربعة عناصر بقيادة محمد أومدة، مع العلم أن النجاة كانت لتكتب لعدد آخر من مقاتلي خنيفرة، لولا التعذيب الذي لحق بأسرهم، وهو ما أجبرهم على العودة، وكمثال على ذلك أمهروق أمزيان الذي قرر تسليم نفسه بعدما علم بمقدار التعذيب الذي لحق أسرته.
نهاية زمن المقاتلين
ستعرف محكمة القنيطرة في الـ26 من يونيو سنة 1973 محاكمة 149 مشاركا في هذه الأحداث وذلك من خلال ما يُعْرف ب"محاكمة عمر دهكون ومن معه"، لم تكن تلك المحاكمة عادية أبداً، لأن المعتقلين تحدثوا عن وسائل غريبة للتعذيب من أجل انتزاع اعترافاتهم على يد عدد من رجال السلطة كالكولونيل ختوش بكلميمة، أرزاز بخنيفرة، الكوميسير الحمياني بالرباط، والكوميسير قدور اليوسفي في الدار البيضاء وغيرهم. وحسب ما حكاه مصدر لهسبريس، فإن أحد المقاتلين المصابين الذين سقطوا في يد القوات العمومية بخنفيرة، تمّ جره من رجله المصابة شبه المقطوعة، ولم تنفع صرخات استجدائه في بث القليل من الشفقة في قلوب من كانوا يجرونه.
طالب وكيل الملك من كل متهم أن يقدم رأيه في المؤسسة الملكية، فقام عدد من المتابعين الاتحاديين بتأكيد ولائهم للملك قصد نيل عقوبة مخففة، كما حاول محامو المعتقلين، الدفاع عنهم بالحديث عن أن الأسلحة كانت لغرض التدريب من أجل السفر إلى فلسطين، إلا أن سعيد أوخيا، أحد المقاتلين، وعندما حان موعد شهادته، ابتسم بشكل واضح وقال:" الأسلحة كانت لغرض تحرير بلدي من الاستبداد، ولو تبقّت طلقة واحدة في رشاشي، لمّا وجدتموني هنا بينكم".
بعد تسعة أسابيع على انطلاق أشغال المحاكمة، نطقت المحكمة بأحكام الإعدام في حق 16 متهما، والمؤبد في حق 16 آخرا، بينما نال أربعة ثلاثين سنة سجنا نافذا، خمس وعشرون سنة لاثنين، عشرون سنة ل28 واحدا، عشر سنوات لخمسة، خمس سنوات لثمانية، سنتين لمتهم واحد، سنة موقوفة التنفيذ لثمانية، والبقية نالوا البراءة.
نُفذ الإعدام صبيحة يونيو من نفس السنة، واعتقد أحد المعتقلين وهو محمد المهتدي أن توريطه لآخرين سيمكّن من إنقاذه من حكم الإعدام الذي صدر بحقه، إلا أن السلطة أخذت ما أرادت منه من اعترافات، وأعدمته هو الآخر لتتحقق نبوءة بنجلون عندما قال له إنهم سيعدمونه سواء تعاون معهم أم لم يتعاون. أما بقية المعتقلين، فقد تم الإفراج عنهم سنة 1980 بعفو ملكي.
ثورة قتلها المخزن ودفنها بعض صناعها
في وصية تلخص الكثير من الأوضاع، قال عمر دهكون للراحل عمر الخطابي في السجن:" عندما تخرج من هنا، كن شاهدا على ما وقع، فمسؤولينا وقياديينا سيتحولون من الاعتقال إلى الوزارات..وعلى الرفاق أن يفهموا أن العدو موجود داخلنا".
ما قاله دهكون تحقق بعد ذلك، فعدد من الوجوه الاتحادية المشاركة في الأحداث جلست فوق كراسي الوزارات، وانتقل الكثير منهم من العمل الثوري إلى العمل داخل مناصب الدولة، بل أن منهم من أنكر فيما بعد أي علاقة له بالاحداث، ومنهم من تنكر لرفاقه الراحلين بشكل تام.
انتهت أحداث 3 مارس، وانطفأ لهيب العمل المسلح الاشتراكي بالمغرب، ومن نتائج هذه الثورة المجهضة، أن قرر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية القطع نهائيا مع العمل المسلح خاصة بعد تفجر الخلافات بين قيادات التنظيم الثوري في أرض المهجر، فتم تشكيل حزب جديد غير كلمة "الوطني" ب"الاشتراكي"، وحوّل أسلوبه من مواجهة النظام، إلى متحالف معه بكثير من المبررات، من بينها الإجماع على قضية الصحراء، كما أن هذه الأحداث ساهمت في الحد من جبروت الدولة للعودة إلى نظام المؤسسات اعتبارا من 1977.
انتهت القصة إذن، وانتهى معها مسار مقاتلين قد لا يعلم بهم الكثيرون، بعدما تمّ تغييبهم قسرا من كتب التاريخ الرسمي، من تبقّى منهم حاولت الدولة أن تتصالح معهم بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، لكن الجرح الكامن في أعماق عدد ممّن التقت هسبريس بهم، لم يندمل بعد..جُرح سنوات من الهروب ومن الاعتقال ومن التعذيب..جُرح أصدقاء لهم رحلوا برصاص السلطة..جُرح ثورة موءودة قتلها المخزن..ودفنها واقع سياسي غاية في الرداءة.
* في الصورة عدد من المشاركين في الأحداث كعبد الله المالكي، إبراهيم أوشلح، البشير الزين
.......................
 
3 مارس 1973.. الثّورة المنسية
«المساء» تزور مناطق عرفت اندلاع مواجهات مسلحة بين «الثوار» والنظام وتلتقي بالفاعلين الرئيسيين في انتفاضة 1973 بعد 40 سنة من الصمت
نشر في المساء يوم 29 - 03 - 2013


هؤلاء مرّوا من هنا، تاركين وراءهم العدم وذاكرة
مكان مشحونة بالأمل والألم. هنا، نقتفي آثار ماض مؤلم. أرادوها ثورة سنة 1973، فكانت هي شيئا آخر. في هذا التحقيق، سنحاول قدْر الإمكان المشي على خطى من سبقونا من هنا، من «الأطلس المتوسط»، وبالضبط من منطقة «أجلموس»، البعيدة عن مدينة خنيفرة بأقلَّ من 40 كيلومترا، التي كانت مسرحا لجزء من المواجهات بين «الثوار» والجيش، نعيد تجميع الصورة لثورة منسية من تاريخ المغرب، اندلعت ذاتَ ربيع من سنة 1973، لنطرح الأسئلة المتناسلة: أي جحود أكبر من أن يُسقط التاريخ أحداثا صُنعت بالنار والدماء؟ كم هي الطموحات التي ضاعت وسط آفاق غامضة؟ كم هي الخصال البشرية التي تم إفسادها؟ ماذا تبقى من الموتى، ومن الأحياء، ومن «الموتى -الأحياء»؟ هل هناك من مغزى يجب الاحتفاظ به كدرس من القدر المتناقض لهؤلاء الرجال الذين قرّروا، رغم ذلك، توحيد مصيرهم؟.. الجواب يكمن بالضبط في هذا الصمت العنيد، الذي طالما غطى هذا التاريخ المأساوي.
التاريخ: يوم الأحد، 10 مارس 2013، المكان: أحد فنادق خنيفرة. يلتقي محمد أونجدي وعبد الله المالكي بعد فراق دام 40 سنة، في عروس الأطلس المتوسط. عناق حارّ بين ثوريين غزا الشيب شعرَيهما، لكنّ روح «الرجل الثوري» استقرت داخلهما إلى الأبد.. يتذكران مَشاهدَ «ثورة مسلحة» من أجل قلب النظام خططوا لها ونفذوها، لكنْ لم يُكتب لها النجاح. يتذكران أيضا فصول قصة تداريبهم في معكسر الزبداني في سوريا لعدة سنوات قبل تهريبهم إلى داخل التراب الوطني من أجل المشاركة في انتفاضة 1973، أو ما يعرف إعلاميا ب«أحداث مولاي بوعزة».
خلال الأربعين سنة هاته تحولت خنيفرة من مدينة ثائرة إلى مدينة «عاهرة»، أو هكذا أريد لها أن تكون في ما بعد، من أجل طمس ماضٍ اختلط فيه الألم بالدم بالثورة. من هنا انطلقوا قبل أربعين سنة، عندما كان للثورة مكان في عقولهم.. اليوم، وبعدما شاخوا، تستدعي ذاكرتهم ما تبقى من ذكريات يروونها على مضض، رفاق كما جمعتهم «ثورتهم المنسية» في مارس 1973 فرّقتهم.
إبراهيم أوشلح، البشير الزين، عبد الله المالكي، أحمد بويقبا وأمزيان.. هنا حيث جالسناهم في «أجلموس» -ضواحي مدينة خنيفرة، حيث يلتقون لأول مرة منذ 40 عاما، بعد فشلهم في إسقاط جدار الخوف عند استبدالهم حديثَ القلم بطرق الرصاص: «لسنا نادمين على ما حدث، ولسنا ضحايا بل أبطال».. هكذا يُردّدون، في ما يشبه الإجماع، لكنّ لغة الجسد أدقّ وأعمقُ. هنا نروي حكايتهم كما يروُونها هم عن أنفسهم، وعن رفاق فارقوهم قبل الأوان، لكنْ ما نفع «القصّة» عندما يغيب صاحبها؟ هم إذن «أبطال بلا مجد»، كما وصفوا أنفسَهم من قبل.
أجلموس.. بقايا معركة
الطريق من خنيفرة إلى قيادة «أجلموس» مليئة بالمنعرجات. تواصل السيارة التي تقلنا اختراق مناطق وعرة، قبل أن تصل بنا إلى أماكن كانت مسرحا للمواجهة بين الجيش المغربي والثوار. نحن هنا أمام أحد منازل من يوصفون ب«الثوار». في هذا المكان الآمن، وقعت اشتباكات بين رفاق الفقيه البصري ومحمد بنونة، الشهير ب«محمود»، العقلين المُدبّرَين للانتفاضة، مع قوات العسكر، و«لعلع» صوت الرصاص فوق سماء هذه المنطقة ذات الطبيعة الخلابة. كانت خنيفرة في ذلك العهد تضمّ 10000 نسمة، فأصبحت بؤرة ثورية كامنة على الخريطة الإستراتيجية للتنظيم، فحوْل خنيفرة تمتدّ منطقة متوحشة من تلال تغطيها الغابات وجبال وعرة، ما يشكل أرضا مثالية لحرب تقوم على نصب الكمائن. «بماذا تذكرك هذه الجبال؟»، تسأل «المساء» عبد الله المالكي، أحد المشاركين في أحداث 1973. يصمت للحظات. كانت عيناه تشيان بعد هذا السؤال بحُزن دفين، قبل أن ينطق: «مأساة.. لقد وقعت أخطاء في التنفيذ نتحمّل مسؤوليتها». نقلنا السؤالَ نفسَه إلى أحد أبرز العقول العسكرية المدبّرة للانتفاضة، إنه البشير الزين، الملقب بين الثوار باسمه الحركي «إدريس النجار»، فكان جوابه أكثرَ دهاء: «تشير هذه الجبال إلى الطبيعة الخلابة التي تزخر بها بلادنا».. جواب انخرط بعدَه الجميع في الضحك. والبشير الزين هذا هو أحد قدماء جيش التحرير الوطني في منطقة الجنوب. التحق بالقوات المسلحة الملكية، حيث أصبح رقيبا أول. هرب إلى الجزائر سنة 1963، واعتقِل في مدريد في يناير 1970، قبل أن يرحل إلى دمشق، وعند عودته إلى المغرب، مع «محمود» سنة 1973، كان ضمن الناجين القليلين من الاعتقالات التي طالت رفاقه، ويقطن اليوم في الرباط، وكان يعد أحدَ أبرز الوجوه الثورية الشابة، التي تلقت تكوينا عسكريا على مستوى عالٍ من الدقة.
يشير لنا احمد بويقبا، أحد المشاركين في انتفاضة 1973 المسلحة ضد نظام الحسن الثاني، بيده اليمنى إلى منطقة معينة بين الأشجار، ويقول بافتخار: «هنا كنا نجلس رفقة إبراهيم التزنيتي، الملقب ب»عبد الله النمري»، ومحمد أمدة معنا، تحت هذه الأشجار ظلا مختبئين مدة سنتين قبل اندلاع انتفاضة 1973».. مصدر افتخار بويقبا هو أن محمد أمدة هذا، الذي يتحدث عنه، هو من مواليد خنيفرة، عنصر سابق في القوات المساعدة. تدرّبَ في سوريا قبل أن يعود سنة 1969. اختبأ في الرباط حتى سنة 1971، واستقر في جبال خنيفرة في بيت عائلة. نجا من الاعتقالات التي طالت ثوار انتفاضة مارس 1973 وهرب إلى الجزائر، رفقة أحمد بويقبا وآخرين، حيث توفى سنة 1980. أما عبد الله النمري، أو إبراهيم التزنيتي، فهو أهمّ وجوه جيش التحرير الوطني في منطقة الجنوب. أصبح خلال سنوات المنفى في سوريا والجزائر عضوا نشيطا في القيادة العليا لجيش التحرير في المنفى. عاد سرا إلى المغرب سنة 1971 ومات في معركة يوم 8 ماي 1973.
غيرَ بعيد عن هن هذه المنطقة، توجهنا بالسيارة إلى منزل لا يبعد إلا ببضعة كيلومترات. سلكنا طريقا غيرَ معبدة لنصل إلى منزل ما زالت أسواره شاهدة على مواجهات عنيفة. أمام منزل أمهروق أمزيان، وقف نجله، علي أمزيان. يعود بذاكرة التاريخ إلى سنة 1973، حينما اقتحم العسكر منطقة «عزيز أولحسن»، التي تقطنها عائلة أمزيان. يشير علي أمزيان بيديه إلى آثار اقتحام شاحنة تابعة للقوات المسلحة الملكية لمنزل والده، من أجل إدخال الرعب في نفوس قاطنيه.. وبعد أن فشلت عناصر الجيش في العثور على أمزيان، يقول ابنه الصغير، «قاموا بمصادرة كل أملاك العائلة من مواش وحلي ذهبية»..
لا مصالحة مع النظام
كان هذا الاقتحام شاهدا على انتهاكات عرفتها المنطقة بعد اندلاع الانتفاضة المسلحة للسكان. لا يمكن إلا أن تتساءل أمامها قائلا: كيف يمكن للمرء أن يفكر دون أن ينتابه الرعب في أن هذه المناطق الخلابة، التي تبهر السياح، كانت مسرحَ مأساة سالت فيها دماء ودموع كثيرة؟.. إن مرور الزمن، الذي لا ينفتح على الذكرى، يكشف حقيقة لم تتغير. إنه شاهدٌ صامت على مأساة وقعت هنا. في بعض الأماكن تظهر آثار القتال على حيطان بعض المنازل. وتبدو معنويات الناجين الذين أُلتقي بهم داخل هذه المنازل سالمة. فقد عُذبوا وحُرموا من حريتهم وانتزِعت منهم ممتلكاتهم، ولكنهم يتبنون أعمالهم الماضية بفخر ويمدحون الشّهداء الذين اختفوا مدحا كثيرا.
شهدت العملية العسكرية، التي قادها الكولونيل أرزاز، في المنطقة اعتقال عائلة أمهروق أمزيان بأكملها، بمن فيهم زوجته محايطو وأبناؤها والجَد، الذي كان يقطن بمعيتهم، وكان مصابا بالشلل.. قاموا بتعصيب أعينهم قبل أن يقلوهم على متن شاحنة إلى الثكنة العسكرية في خنيفرة، حيث تعرضوا لمختلف أشكال التعذيب، من «الطيارة» و«الشيفون» والتعذيب اللفظي، عبر سبهم بالكلمات النابية لمدة 6 أشهر.. ما اضطر الوالد أمهروق، الذي كان مختبئا، إلى تسليم نفسه بمحض إرادته، وفضّل عدم الهروب إلى الجزائر رفقة رفيقيه محمد أمدة وأحمد بويقبا، حتى يتم الإفراج عن أفراد عائلته.. يكشف علي أمزيان، أيضا، أن الوالد، ومن معه، طُلِب منهم عدم الإتيان على ذكر أي شخص من القيادة السياسية لحزب، ونفي أي علاقة لهم بالموضوع أثناء المحاكمة، وهو ما استجاب له رفاق محمد بنونة..
قضت المحكمة العسكرية في حق أمزيان ب20 سنة سجنا نافذة، قضى منها 7 سنوات، قبل أن يصدُر في حقه عفو ملكيّ، بعد أن فقد إحدى عينه جراء التعذيب الذي تعرّض له، إضافة إلى إصابته بمرض عضال، بقي ملازما معه إلى حين تاريخ وفاته سنة 1989 في الرباط جراء نوبة قلبية. يثير علي أمزيان الانتباه، في تصريحه ل«المساء»، إلى أنّ «عائلته لم تستفد من جبر الضرر الفرديّ كاملا، بعد رفض كل من هيأة التحكيم المستقلة، التي أنشأها الحسن الثاني وأوكل إلى إدريس الضحاك رئاستَها، وهيأة الإنصاف والمصالحة تعويضَ العائلة عن الممتلكات التي ضاعت منها، و«الغريب أنّ المجلس الوطني لحقوق الإنسان أخبرنا أنّ هذا الملف قد تم طيه بشكل نهائي»، يضيف علي أمزيان.
يتذكر أمزيان محمد أوكرران، شقيق أمهروق أمزيان، بكثير من الحرقة والحزن على ما تعرضت له المنطقة من إبادة بعد الانتفاضة، التي فشلت في مساعيها. اعتقل محمد أوكرران 3 سنوات، رغم أنْ لا علاقة له بالتنظيم المسلح ولا بالأحداث.. وألقي به في المعتقل السري «الكوربيس»، قرب مطار النواصر، حيث تعرّضَ لمختلف أشكال التعذيب، قبل أن تبرّئه المحكمة في ما بعد: «لن نسامحهم إلا أمام الله.. مع هادشي اللي داور لينا»، يصرخ محمد أوكرران بأعلى صوته في حديثه مع «المساء».. يجد موقف الأخير سنده في العديد من المخلفات السلبية والإنسانية، التي ما زالت جاثمة على الأنفاس. يعاني العديد من سكان المنطقة إلى اليوم من أمراض عدة جراء التعذيب والانتهاكات التي شهدتها المنطقة، تعذيب لم يستثنِ لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ.. مصطفى أمزيان، أحد أبناء المشاركين في الانتفاضة، يعاني، إلى اليوم، من اضطرابات نفسية خطيرة، تجعله غيرَ قادر على الكلام إلا لماما..
«لقد عذبوا عائلاتنا.. تكرْفصُو عليهومْ.. وقامت قوات الأمن باعتقالهم وتعذيبهم، وخصوصا أفراد قبيلة «آيت خويا»، الذين كان يتم اعتقالهم وتعذيبهم بغضّ النظر عن مشاركتهم من عدمها في الانتفاضة المسلحة، ويكفي فقط أنهم علّقوا زوجة أمدة من شعرها على شجرة، وقاموا بقَنبَلة منزلي واستولوا على الشياه التي كنا نملكها وذبحوها من أجل تأمين غذائهم دون وجه حق»، يقول أحمد بويقبا غاضبا، مضيفا: «حتى الاستعمار لم يكن يعتقل العائلات والأبناء ويُعذبهم، بل يتوجه مباشرة إلى المسلحين». ليخلص بويقبا جازما: «لن نتصالح، ثم مع من سنتصالح؟ هل تريدوننا أن نسمح في حقوقنا المشروعة ونعلن تصالحنا مع الدولة؟.. ما غاديش نْتّصالحو حْتى نْموتو».
بداية الحكاية.. مخيم الزبداني
بالعودة إلى قبل 1973 وما تلاها، وبالضبط يوم الجمعة، 29 يناير 1969، داهمت الشرطة شارع سانشو دافيلا في مدريد، واقتحمت بيت سعيد بونعيلات، أحد أبرز الأطر الثورية في التنظيم المسلح، ووضعت الأصفاد في يديه. واحتجزت الشرطة الاسبانية كمية كبيرة من المال وعدة وثائق وجوازات سفر مزورة.. ولكنّ ما تم احتجازه بدا «قليلا» مقارنة مع «الغنيمة» التي كانت منتظرة. أخضعت الشرطة المنزل للمراقبة، ولم يذهب صبرُها هباء، إذ عند بداية المساء، وصل أحمد بنجلون إلى الشارع. فوجئ بنجلون وطوق فلم يُبد أي مقاومة، وخلال الحملة اعتقلت الشرطة الإسبانية أربعة أطر ثورية أخرى كانت تنتظر الأوامر في فندق في ضاحية مدريد: الشاب عبد الله المالكي والنجار ومحمد أونجدي وسي إبراهيم.. ولأن المالكي ورفاقه يحملون جوازات سفر سورية فسرعان ما تم اعتقالهم، إذ لما علمت سوريا باعتقالهم طالبت بأن يسلم الطلبة السوريون الذين اعتقلوا خطأ إلى السفارة السورية ليُطلق سراحهم، ويتوجهوا مباشرة إلى سوريا، حيث تلقوا تدريبات عسكرية هناك. لتبدأ مغامرة جديدة في مسار هؤلاء الشبان، خاضوا غمارها بنبل.. فكانت نقطة انطلاق بعضهم من مدريد ومحطة العبور في سوريا.
ينقل لنا كتاب «أبطال بلا مجد»، أبرز عمل ميداني سرد قصة انتفاضة 1973، لمؤلفه المهدي بنونة، نجل محمد بنونة (محمود) حكاية على لسان واحد من «الثوار»، وهو الفرشي، الذي كان كذلك ضمن المسافرين مع الفرقة التي توجهت إلى سوريا وبالضبط إلى مخيم الزبداني: «بعد أن أمضينا أسبوعا في دمشق، تم اقتيادنا إلى معسكر الزبداني يوم 15 مارس 1969. كان معسكرا خصصه السوريون للفلسطينيين من منظمة الصاعقة»، يقول الفرشي. أما عبد الله المالكي، عامل التواصل الشباب وصغير مجموعته، فما زال يتذكر هذه التفاصيل. كان يتقاسم خيمة مع 7 من رفاقه عندما أخرجته قبضة حديدية من نومه.. وبصوت قويّ أمره محمود هو وأصدقاؤه باللجوء إلى الخنادق المحفورة على جنبات المعسكر. وبعد تشابك قصير، وجد المالكي نفسه مرميا على بطنه وأنفه في التراب المبتلّ في قعر الخندق مليء بمياه الأمطار الغزيرة، التي تهاطلت في اليوم السابق. ولما استعاد رشده وصله من بعيد دويّ الأسلحة وصوت مطاردة جوية: كان الإسرائليون يهاجمون معسكر الفدائيين الفلسطينيين المجاور..
يشرح المهدي بنونة أسباب اللجوء إلى هذا النوع من التداريب القاسية في كتابه قائلا: «كان هذا التمهيد مقدّمة تدريب يليق بالقوات التي تشكلها النخبة، يُسيّره ضابط مدرّس سوري يركز، على وجه الخصوص، على التمارين التي تجري في أقسى الظروف». وإضافة إلى «التكوين العملي كان هناك تكوين نظري لتحسين معارف أطر المستقبل الشابة ومعلوماتهم. يعدد هذا التكوين أدوات الكفاح السري من الكتابة بالحبر السري إلى الاتصالات السلكية واللاسلكية، مرورا بالترميز والخرائط»، يضيف بنونة. كان السوريون يزودون «الثوار» بأسلحة من صنع روسي أو تشيكسلوفاكي. ولكنْ سرعان ما وسع التنظيم لائحة مزوديه كي يصبح هو كذلك يملك نوع الأسلحة نفسه الذي في حوزة القوات المسلحة الملكية، وخاصة البنادق الرشاشة فرنسية الصنع «ماط 49». أمام العدد المتزايد من الثوار المغاربة الوافدين على المخيم وضع السوريون تحت تصرف التنظيم معسكرَ «عين البيضا» على بعد 15 كيلومترا شرق دمشق، حيث تدرّبوا قبل العودة مجددا إلى المغرب لتنفيذ مخططهم بتغيير النظام عبر السلاح..
صهر الملك يؤوي الثوار
ساعة الصفر انطلقت. ثلاث سنوات من التداريب العسكرية الشاقة. الثوار الشباب باتوا إذن، على استعداد تام لتنفيذ ثورتهم المسلحة، كما حلموا بها، رغم أنّ الرياح لا تأتي دائما بما تشتهيه السفن. «نحن لم نحمل السلاح في وجه الحسن الثاني لوحده، بل حملنا السلاح ضد الظلم، في تلك الأيام الغابرة، يمكن المقدم أو الشرطي لوحده أن يعتديّ عليك دون وجه حق»، يقول أحمد بويقبا. «كيف تمكنتم من إدخال السلاح إلى المغرب؟ تسأل «المساء»، ليجيب بويقبا: «تم تهريب السلاح من الخارج إلينا عبر الحدود مع الجزائر». هنا يتدخل إبراهيم أوشلح ليصرّح لنا بأنه هو من تكفل بتهريب السلاح إلى الثوار المغاربة عبر الحدود الجزائرية، قادما من ليبيا.
قد يحدث أن يزعزع رجال مجرى التاريخ ويحركوه. تحذوهم روح الكرامة وكذا الإحساس بالواجب الذي يجب القيام به، فيجابهون قوى أكبر من قوتهم. عبد الله المالكي واحد من هؤلاء. كانت هيأته الجسمانية تدل على أن الرجل قد حنّكته سنوات من المتاعب والصعاب تجاوزها بفضل قوة قناعاته وحدها. كانت نظرته الوقورة توحي بأنه من الزّهاد الناسكين. كان هادئا هدوءا داخليا لا يعرفه إلا أولئك الذين تعاهدوا على أن يهبوا حياتهم لتحقيق مثل أعلى، حتى وإنْ لم تسعفه الأحداث، فإنه كان يتابع، دون هوادة، الطريق التي سطرها لنفسه إيمانه بعدالة القضية التي يدافع عنها. ولأنهم لم يعودوا يملكون سوى الثورة ليقاوموا حظهم العاثر، فإنهم اختاروا حملَ السلاح. عبد الله المالكي هذا ليس سوى حفيد سيدي حمو، واحد من أبرز رجالات المقاومة ضد الاستعمار. تكَوّن في الجزائر ثم في سوريا واعتقِل في مدريد سنة 1970، قبل أن يرحل إلى دمشق. عاد إلى المغرب رفقة «محمود» سنة 1973، حيث التحق بالأطر الثورية في تنغير، وهو من بين الناجين القليلين، وهو اليوم يعيش في الدار البيضاء. يقول، في حديث مع «المساء»: «كانت الثورة شعبية، وكان واجبنا نحنُ أن نؤديّ دورَنا حتى آخر لحظة».
بدأت مجموعات الثوار تدخل إلى المغرب عبر الحدود الجزائرية. من أوائل الملتحقين ب«جبهة القتال» بالمغرب، كان هناك النمري وسيدي حمو ومحمد أمدة، الذين كلفوا بإعادة تنظيم الشبكات السرية وإعدادها لاستقبال الأوامر بشنّ القتال. وأما من سهّل مهمة دخولهم إلى المغرب فليس سوى أمحزون، الملقب بأولحاج موحى، وهو من أعيان مدينة خنيفرة، ويتحدر من سلالة الملاكين المحليين، وأصبح بفضل قرابة الزواج صهرا للملك الحسن الثاني. على الرغم من ذلك، كان الممول الرئيسي للنمري منذ تسريبه إلى المغرب، اعتقل يوم 4 مارس، ثم حكم عليه بالإعدام ونفذ فيه الحكم في القنيطرة، يوم فاتح نونبر 1973.
حلم أجهِض في المهد
بعد انصرام 40 سنة على مرور هؤلاء الثوار من هذه الربوع الأطلسية، وجدتني أقتفي مسارهم ثانية. كنت أجهل ما الذي سوف اكتشفه، فاستسلمتُ لمفاجآت مظهر المنطقة البسيط. ما زال البؤس والكآبة هما نفساهما بدون شك، كما كانا في السابق. ومع ذلك فإن استقبالهم، مَهما كان حارا، لا يمكن أن يُخفيّ الحقيقة المرعبة. إن مثلهم الأعلى قد ضاع وسط رجّة عالم تصنعه واقعية سياسية لها نبرة الاعتراف بالعجز.. إنها أرواح متقززة تنظر نظرة مرعوبة إلى أعداء الأمس وهم يتبادلون أحاديثَ «ملساء»، منافقة، بالذات مع أولئك الذين كانوا يناشدونهم قديما خوضَ الكفاح المسلح.
في المقابل، لا ينفي هؤلاء أنهم يتحملون جزءا من مسؤولية فشل انتفاضتهم المسلحة. يقول إبراهيم أوشلح ل»المساء»: «لم تكن الثورة المسلحة معزولة عن الجماهير، كان ضعفنا نابعا ربما من انتمائنا إلى صفوف «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، الذي كان يضمّ أناسا لم تكن لهم رغبة في إسقاط النظام»، مضيفا: «كنا مخطئين ولم نقدّر جيدا الأرضية الاجتماعية والإيديولجية التي يستند إليها النظام السياسي، مع العلم أنه لم يستطع اختراقنا ولم تكن أجهزته تعلم عن أماكن وجودنا ولا مناطق تدريبنا شيئا». هل كانت القيادة السياسية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية تساند التنظيم المسلح؟ يجيب أوشلح جازما: «كان الحزب يدعم الثورة، وكانت القيادة السياسية بأكملها واعية بأن الحزب يملك جناحا مسلحا». ويضيف أوشلح: «كنا نطلق على الجناح السري اسم «العمل الجدي»، وهو الذي قرر في اختيار قيادة «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، خلال المؤتمرين ال12 وال13، إذ إنّ كلا من محمد الخصاصي، الذي انتخب رئيسا للمنظمة الطلابية في المؤتمر ال12، والطيب بناني بعد المؤتمر ال13 كانا محسوبَين على جناح الفقيه البصري.
على المستوى الميدانيّ وقعت أخطاء جسيمة، أبرزها إعطاء أوامر للثوار في بعض المناطق للهجوم والتحرك دون مناطق أخرى.. هنا يقول عبد الله المالكي: «لا يمكن أن يعطي محمود (الاسم الحركي لمحمد بنونة) الأوامر بالهجوم في مناطق معينة دون أخرى».. ويتابع المالكي بحرقة: «لم يكن من الأجدر بنا أن نترك محمود وسليمان العلوي لوحدهما دون احتياط ومن دون سند عسكريّ لهما، خصوصا بعد أن صدرت الأوامر للبشير الزين بأنْ يغادر إلى منطقة ثانية، وهذا كان سببا في اغتيال محمود وسليمان العلوي في موقعة أملاغو، حيث وقع الاشتباك يوم 5 مارس 1973». أما أحمد بويقبا فيثير الانتباه إلى أنّ الثوار انقطع بهم الاتصال مع القيادة، وهي المهمة التي كان يؤمّنها الناصري، أحد أبرز العناصر الثورية المتدرّبة.
مَهْما كانت الأسباب، وباختصار شديد، فقد فشلت الثورة المسلحة في المغرب. الأقل حظا بين «الثوار» ألقي عليهم القبض، وكان مصيرَهم أحكام عديدة بالإعدام وسنوات من الحبس النافذ، أما المحظوظون فقد تمكنوا من الهروب خارج البلاد. أحمد بويقبا واحد من هؤلاء. يحكي ل»المساء» قصة هروبه، التي تشبه فيلما سينمائيا غيرَ مكتمل.. «توجهنا، رفقة أحمد ومحمد أمزيان، إلى الحدود الجزائرية على أقدامنا ونحن نحمل السلاح، حيث مكثتُ رفقتهم سنتين هناك، قبل أن أتوجه إلى ليبيا، التي بقيتُ فيها إلى حدود سنة 1994، تاريخ إصدار العفو على المعتقلين السياسيين والمنفيين من طرف الحسن الثاني، بعد أن أحسّ بضغط دولي حينها». كانت تلك بداية مرحلة والانتقال إلى أخرى في تاريخ المغرب المعاصر، انتقال لم يُضمّد كل جراحات الماضي، التي ما زالت لم تندمل...
«محمود».. مهندس التنظيم المسلح

عند الحديث عن محمود تبتلّ أعين كل من التقيناهم من «الثوار» وتختنق أصواتهم، فيصبح لمأساتهم المخبّأة فجأة وجه: إنه وجه إطار سياسي، كان إضافة إلى هذا مهندسا ينتظره مستقبل زاهر. «مهندس تقاسم معهم حياتهم إلى درجة أنه وهب حياته خدمة لتحريرهم.. إنهم في حدادٍ على شجاع نبيل»، هكذا ردّدوا في حديثهم إلى «المساء» عن مهندس ثورتهم والرجل الثاني في التنظيم بعد الفقيه البصري.. لا تزال صورة الشاب محمود، المتشبع بالثقافة الألمانية، تسكن، ملفوفة بالدم، في صدورهم، لكنها تتلاشى يوما بعد يوم..وسط شساعة الجبل كان محمود يتدرب على موته. وهو النهاية الحتمية لملحمة مأساوية. إنه عمل يدعو إلى كفاح يستمر حتى انمحاء الذات نفسِها. قُدِّر له أن يموت شابا وعمره لم يتجاوز 35 سنة، في معركة شرسة مع الجيش المغربي، في منطقة أملاغو سنة 1973. فضل محمود، إذن، خيار السلاح للقضاء على سيادة الرّعب الذي يدين له النظام، والذي كان محمد أوفقير وأحمد الدليمي وإدريس البصري رجاله الذين يثيرون الرعب، والناجعين الفعّالين في الآن نفسه. من دون شك، اختار محمود هذا الاختيار بصدق وإخلاص.
ولد في الرباط سنة 1938، من أسرة متواضعة. نشأ متأثرا بالنضال الوطني لأخيه الأكبر، الذي عمل في مشروع بناء طريق الوحدة، الذي أشرف عليه المهدي بنبركة خلال صيف 1957 بمشاركة إثنى عشر ألفا من المتطوعين الشباب.
حصل محمود على شهادة الباكلوريا من ثانوية مولاي يوسف في الرباط. في أيام الاستعمار شارك في العديد من المظاهرات ضد السلطان بن عرفة، الذي نصّبه الفرنسيون بديلا للسلطان محمد الخامس. وفي بداية مراهقته، اجتذبته لعبة الكبار، فانجرف الشاب محمود مع الحماس العارم. ولمّا بلغ السابعة عشرة من عمره، شهد رجوع محمد الخامس منتصرا إلى الرباط.. ولكنْ وفي تلك الأيام التي تلت الاستقلال، كانت الأوضاع غير مستقرة. كان الجيل الجديد من الحاصلين على الشواهد يفيض أملا، فعزم على أن يتدارك قرونا من التأخر في بضع سنوات على أقصى تقدير، وهي المهمة التي تعبأ لها في ذلك الحين عدد من السباب الموهوبين وتحمسوا لها. وهكذا فليس من قبيل الصدفة أن يتخصص محمود في العلوم، وهو التخصص الذي أملته أولوية وضرورة تجاوز العوائق التقنية التي تقف في طريق بلوغ التنمية في اقرب الآجال. انضمّ محمود إلى هذه النخبة الجديدة الصاعدة، التي ستصطدم مع من كانت تصفهم ب«الإقطاعيين المُتشبّثين بامتيازاتهم».. لم يكن محمود ورفاقه، إذن، يحتاجون إلى وقت طويل ليعرفوا أن معوقات التنمية هي كذلك، وعلى وجه الخصوص، معوقات سياسية، لذلك قرّروا الاصطفاف مع المهدي بنبركة حين قرّر ما يعرف ب»الجناح التقدمي» الانشقاقَ عن حزب «الاستقلال» سنة 1958، خصوصا أنّ محمد بنونة، الملقب ب«محمود»، لا يرتبط بحزب «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» ارتباطا إيديولوجيا فحسب، فالمهدي بن بركة هو زوج ابنة خالته، غيثة بناني، فهو يزورهم، كما هو شأن العديد من الشباب الآخرين، في بيت العائلة في شارع تمارة. فتحولت القرابة العائلية إلى ترابط فكريّ.. سرعان ما سافر «محمود»، بفضل منحة من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إلى ألمانيا الشرقية ليتلقى تكوين مهندس في الإلكترونيك. وحين عاد إلى المغرب رفض العديد من الاقتراحات لشغل وظيفة حكومية، وفضّل التفرغ للعمل السياسي والنضال وسط العمال والفلاحين، إذ إنه انتبه إلى أن العمل الملموس على أرض الواقع يجعله يحسّ بأنه يساهم في تنمية بلاده مساهمة فعلية.. انخرط في العمل الثوري والنضالي، كما كان يراه صالحا من منظوره، وتلقى تكوينات عسكرية، قبل أن يقرر العودة إلى المغرب.

25 يونيو1975.. محاكمة «الثوار»

قُدِّم للمحاكمة 149 متهما، من بينهم قادة الانتفاضة ومسؤولو الحزب، أمام محكمة القنيطرة. كان هناك دهكون والعديد من رفاقه، ومنهم المهتدي والجدايني، جنبا إلى جنب. كان هناك، كذلك، زهاء عشرة من أطر حرب العصابات، الذين عادوا مع «محمود». لقد اعتقلوا والسلاح في أيديهم، فلم يكونوا واهمين في ما يخصّ المصير الذي ينتظرهم.. إلى جانبهم تكدس قادة الخلايا السرية في الأطلس وأطر الحزب، على رأسهم عمر بنجلون ومحمد اليازغي. وأما عبد الرحيم بوعبيد فقد كان مطلوبا للمثول أمام المحكمة بصفته شاهدا، «لا شك أن هذا العمل كان مناورة ناجحة من مناورات القضاء في المغرب، ما دامت هذه المناورة ستمنع عبد الرحيم بوعبيد من أن يترافع وأن يحقق النصر نفسَه الذي حققه في مراكش ثلاث سنوات قبل ذلك.. كانت السلطة تنتظر منه أن يأخذ مسافته ويبتعد عن الثوار»، يشرح المهدي بنونة في كتابه «أبطال بلا مجد».
نُطِق بالحكم في يوم الخميس 30 غشت 1973. حكم على 16 شخصا حضوريا منهم بالإعدام، و 15 آخرين بالمؤبد، أما الباقون فحكم عليهم بعدة عقود من الحبس، وبُرّئ البعض، لكن وباستثناء المعتقلين المحكوم عليهم بالإعدام، أعيدت محاكمة الباقين بأكملهم، بمن فيهم أولئك الذين برّأتهم المحكمة..
نفذ حكم الإعدام في حق عمر دهكون يوم الخميس، فاتح نونبر 1973، مع 14 رفيقا من رفاقه، كان يوجد في صف واحد إلى جانبه لحظة تنفيذ حكم الإعدام اثنان من رجاله الجدايني ويوسف مصطفى، إضافة إلى حسين أبت زايد (قائد خلية تنغير) واحديدو (قائد خلية إميلشيل) وموحى أولحاج، قائد خلية خنيفرة، فضلا على تسعة من رجال محمود المقربين، وهم دحمان سعيد والناصيري وبوزيان والعثماني وآيت عمي وباعمراني والجزار وصبري وفريكس.. انتهت المحاكمة الثانية يوم 18 يناير 1974 بالنطق بستة أحكام جديدة بالإعدام، وفي المجموع كان هناك 84 حكما بالإعدام غيابيا وحضوريا، في حين أطلق سراح سبعة محامين، منهم عمر بنجلون ومحمد اليازغي، صباح يوم 27 غشت 1974، في التاريخ الذي أعدم فيه سبعة ثوار داخل السجن العسكري في القنيطرة.
 
.............................

محمد بنونة - 1938 - 1973


 في  مطلع مارس 1973، قام مناضلون من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعبور الحدود الجزائرية المغربية باتجاه الأطلس للقيام بحركة مسلحة واسع ضد النظام المغربي. إلا أن قوات الشرطة و الجيش تمكنت من تطويقهم في 5 مارس 1973، فاستشهد العديد منهم في هذه المواجهة و من بينهم محمد بنونة.
هذا هو الرابط لكتاب "أبطال بلا مجد" من تأليف ابنه المهدي بنونة والذي نشر في يونيو   2002بالفرنسية  http://livre.fnac.com/a1358963/M-Bennouna-Heros-sans-gloire  
ونشرت الترجمة العربية للكتاب سنوات بعد ذلك.
................. 

اللااستثناء المغربي: حزب وجيش وقصر

[صورة من متحف جيش التحرير المغربي في سيدي إفني، المغرب، بعدسة المؤلفة] [صورة من متحف جيش التحرير المغربي في سيدي إفني، المغرب، بعدسة المؤلفة]
 اللااستثناء المغربي: حزب وجيش وقصر (الجزء الأول)
كان العام هو 1958، وكان المغرب قد دخل عامه الثاني من الاستقلال عن فرنسا، السلطان محمد الخامس يكتهل ووليّ العهد الحسن الثاني، قائد القوات الملكية المسلحة، بدأ بتأكيد سلطته سياسياً وعسكرياً. وكان الطرفان الشمالي والجنوبي من المغرب، وكلاهما معقل لجيش التحرير المغربي، خارج سيطرة القصر. حافظت أسبانيا، بقيادة فرانكو، على وجودها الاستعماري على طول حدود المغرب الشمالية والجنوبية. وأظهر المهدي بن بركة (الشخصية الوطنية المعروفة) براعة سياسية سببت نزاعاً بينه وبين أعضاء حزبه السياسي، الاستقلال، وبينه وبين القصر. وكان هذا عاماً أعادت فيه سلسلة من التحركات السياسية والعسكرية بناء ترتيبات وتحالفات القوة الموجودة، واضعة أسس الدولة المغربية الحديثة ومجتمعها المدني.    
وإذا ما وضعنا عام 1958 في سياقه التاريخي، نرى أنه ينسجم مع فترة في الخمسينيات شابتها حالات شد وجذب القوة التي وسمتْ ممارسة وسيرورة تشكل الدولة، والتي بالتالي صاغت آنذاك علاقات الدولة مع المجتمع المدني.  وقد عالجت المقاربات المعيارية لتقسيم التاريخ المغربي الحديث إلى فترات مسألة تشكل الدولة بشكل غير ملائم، وذلك من خلال إهمال الفترة التي سبقت وتلت مباشرة سنة 1956، السنة التي حقق فيه المغرب استقلاله عن فرنسا. ولا يمكن القيام بتحليل نقدي لممارسة وسيرورة تشكل الدولة، وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني في المغرب إلا إذا تجاوزنا التقسيم إلى فترات الذي بُنيَ حول التقسيمات بين الحقب السابقة للاستعمار، والاستعمارية وما بعد الاستعمارية، أو حول فترات حكم السلاطين والملوك. انطلاقاً من هذا، تهدف هذه المقالة إلى مناقشة المركزية العضوية المستمرة المتصورة للنظام الملكي التي أشاعتها التواريخ الوطنية وتهميش الاختلافات السياسية مع الدولة. لقد تبنت الدولة المغربية المعاصرة إلى حد كبير هذه التواريخ الوطنية وأعادت إنتاجها وتعديلها في المتاحف العامة والأرشيف والمقررات المدرسية و”مواقع للذاكرة” أخرى. وتأتي المركزية المفترضة للنظام الملكي في هذه التواريخ على حساب سوء تشخيص الفاعلين والمجموعات والأحداث التي نُسيتْ طويلاً وتم تذكرها بشكل انتقائي.  فضلاً عن ذلك، صاغ هذا السرد إلى حد كبير الطرق المعيارية التي يُقدم بها النظام الملكي المغربي كاستثناء.   
من الضروري أن نعيد النظر في العلاقات المتبدلة بين النظام الملكي وحزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي في الخمسينيات، وموضعة هذه الديناميات داخل تاريخ تشكل الدولة في المغرب. وفي داخل هذه الديناميات والتفاعلات وُضعتْ أسس العلاقات بين الدولة والمجتمع المدني بما أن كثيراً من مجموعات المجتمع المدني المعارضة سياسياً التي بزغت بعد الاستقلال كانت في الأصل في إما حزب الاستقلال أو جيش التحرير المغربي وانفصلت عنهما لاحقاً. مثلاً، في 1975، انفصلت عدة شخصيات من حزب الاستقلال، وأسست الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية. وقد انخرط هؤلاء الأعضاء، مع مقاتلين سابقين من من جيش التحرير المغربي كانوا يعيشون سابقاً في المنفى أيضاً في تعبئة وتأسيس الاتحاد الوطني للطلاب المغاربة ، الذي حُظر بين 1973 و 1978. بدورها، كانت مجموعات المجتمع المدني، التي ظهرت بعد هذه الفترة مؤسسة أيضاً ومنظمة من قبل أعضاء الاتحاد الوطني للطلاب المغاربة والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية، مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. وإذا ما فهمنا كيف تشكلت مجموعات حقوق الإنسان في المغرب، وإذا ما فهمنا خصوصاً المصادر التي بزغت منها، وأعني حزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي، يصبح من الملح وضع هذه العلاقات في السياق التاريخي لتشكل الدولة.
إن العودة إلى الوراء لدراسة الخمسينيات تقدم فرصة للتخلي عن وضع عام 1956 في بداية أو نهاية حقبة، وإلى اعتباره عاماً من الأعوام الأخرى التي وُضعتْ أثناءها أسس الدولة المغربية. وقد بدأت الشخصيات الوطنية مؤخراً بنشر مذكرات روتْ تجاربها وتقويماتها للخمسينيات، وقد نُشر بعضها سنة 2011. ستكون هذه النصوص مفيدة من خلال وضعها في محادثة مع بعضها بعضاً كوسيلة لرسم صورة أكثر شمولاً عن الخمسينيات.
سيُخصص القسم الأخير من هذا المقال لتقويم نقدي لتصوير الدولة المغربية لفترة الخمسينيات في موقع متحف جيش التحرير المغربي، والذي يقع في مبنى “المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير” في الرباط. إن متحف جيش التحرير المغربي مصدر مفيد للتحليل، بما أنه يجمع موضوعات متعددة ترشد هذه المقالة: التقاء الذاكرة والنسيان في بناء تاريخ وطني؛ فكرة بيير نورا عن “مواقع الذاكرة” كوسائل لعرض الذاكرة والنسيان؛ وتصوير النظام الملكي كقوة مؤصلة عضوياً ظلت استمراريتها ومركزيتها سليمتين أثناء الصراع الوطني وبعد الاستقلال. ما سيبقى محورياً، على أي حال، هو الاستجواب المتماسك لما يمكن أن يوصف على نحو أفضل بأنه الذاكرة الانتقائية لتاريخ تشكل الدولة في المغرب من خلال إعادة موضعة وكتابة دور فاعلين مختلفين تخطوا ميادين السياسة والمجتمع المدني بشكل سلس، والأحداث التي بقيتْ طويلاً في هوامش تاريخ المغرب الحديث.
قبل وبعد 1956
إن الأدبيات التاريخية التي بنت تقسيماتها إلى فترات حول 1830 أو من 1912 إلى 1956 وضعت الديناميات الاستعمارية والوطنية في المركز. إن شخصيات مثل عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي والمهدي بن بركة، بين آخرين، يمثلون كلهم الخيوط المختلفة  للوطنية في المغرب، الريفية، والنخبة المدينية، واليسارية، إلخ. ويوسم النظام الملكي كمؤسسة، مُدارة إلى حد كبير كي تحافظ على دورها المحوري وسط تفاعل مستمر مع حالات الشد والجذب بين النظام الاستعماري والحركات الوطنية. إن هذه الأدبيات التاريخية، التي تنتهي في 1956، لا تملك الكثير كي تقوله عما حدث لأولئك الفاعلين وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً حالما حصل المغرب على استقلاله من فرنسا.  فضلاً عن ذلك، حتى استخدام 1956 كمؤشر لاستقلال المغرب مختلّ بما أنه يُغفل الحضور الاستعماري الأسباني المستمر الذي أحاط بالمغرب في الشمال والجنوب. بالإضافة إلى ذلك، إن القفز من عام الاستقلال 1956 إلى 1962، حين أعلن دستور المغرب الأول، يترك ست سنوات حاسمة كان المشهد السياسي وتوازنات القوى تمر أثناءها في تغيرات درامية، مفتوحة. وفي السنوات، التي أتت  مباشرة قبل وبعد 1956 أخذت بعض التطورات الأكثر أهمية شكلاً في وضع أسس الدولة المغربية المعاصرة. وسيبدأ هذا القسم بتلخيص جدول زمني موجز يفحص الأعوام التي سبقت وتلت 1956، مركزاً بصورة رئيسية على جيش التحرير المغربي، ويختتم بموضعة أهمية هذه الأعوام في سياق تشكل الدولة، وفائدتها في استجواب السرديات التاريخية المعيارية. ومن أجل أن أفعل هذا، سيضع هذا القسم العديد من النصوص في محادثة مع بعضها بعضاً، بما فيه الأدبيات التاريخية النقدية والمذكرات والسير الذاتية.
من بين النصوص التي تحرص جداً على فحص السنوات التي سبقت وتلت 1956 في المغرب كتاب المهدي بنونة “أبطال بلا مجد: فشل ثورة، 1963- 1973. وفيما يركز كتاب بنونة بشكل رئيسي على تعقب جذور “الحركة الثورية” الفاشلة في المغرب ضد الحسن الثاني، يقدم لتحليله بالتشديد على الحوادث والفاعلين المهملين للخمسينيات. كان المهدي بنونة، والذي هو أنثروبولوجي، في موقع خاص ساعده في تأليف كتابه هذا، واضعين بالحسبان الدور الذي لعبه والده محمد بنونة أثناء “الثورة الفاشلة” للستينيات والسبعينيات. ويمكن القول إن المهدي بنونة يبالغ في دور والده ومعاصريه في قيادة “ثورة فاشلة” فضلاً عن ذلك، إن وصفه لما يمكن أن يُسمّى بشكل أفضل انقلابين عسكريين فاشلين كـ “ثورتين” يستحق النقد. على أي حال، تكمن القوة في نص بنونة في مظاهره التاريخية العلمية وخاصة في تقسيمه إلى فترات. وعلى نحو مشابه، إن السيرة التي وضعتها زكية داوود والمعطي منجب للمهدي بن بركة ترصد بعمق الديناميات السياسية بين المجموعات الوطنية في المغرب في السنوات التي أحاطت بعام 1956.(1) ولإكمال الدراسة التاريخية لهذه النصوص، ستساعد الإشارات إلى مذكرات المحاربين القدماء الأعضاء في جيش التحرير المغربي في رسم صورة أكثر كلية للمشهد السياسي في المغرب في الخمسينيات.    
يشدد بنونة أنه قبل الانشقاقات التي حدثت بين وداخل مجموعات وطنية مختلفة في المغرب، كان بعض أبرز الوطنيين والقادة المستقبليين أعضاء في مجموعات في جامعة بن يوسف في مراكش سنة 1944. وكان بينهم محمود البصري (المعروف باسم الفقيه البصري)، وعبد السلام الجبلي، وبوراس الفكيكي، ومحمد بن سعيد آيت ايدر، وكلهم سيبزغون كشخصيات مهمة في قيادة جيش التحرير المغربي. وفي العام نفسه الذي كان فيه كلٌّ من البصري والجبلي والفكيكي وآيت ايدر معاً في الجامعة، فإن دزينات من الشخصيات الوطنية، وبشكل رئيسي من حركة الاستقلال، كتبوا بيان الاستقلال. إن قراءة عبر تقسيم بنونة إلى فترات ترصد بجدارة الخطوط بين وضمن عدة شخصيات وطنية من جيش التحرير المغربي إلى حركة الاستقلال. تقوض أيضاً تصورات بأن هذه المجموعات الوطنية كانت معرفة بصرامة ومنفصلة عن بعضها.   
يشير بنونة أيضاً إلى ترابط هذه الحركات ومؤيديها من خلال رصد التفاعلات المتزايدة التي حصلت بين بن بركة والبصري وبوراس في خريف 1957. ومن خلال هذه التفاعلات في 1957، كما يشرح بنونة، كانت عمليات جيش التحرير المغربي في الجنوب مملاة بشكل متزايد من “مجلس مقاومة”، تمسك إلى حد كبير بالتطلعات السياسية لبن بركة، الذي كان ما يزال عضواً في حزب الاستقلال. بالإضافة إلى ذلك، إن وصف بنونة لهذه الديناميات السياسية يوضح بشكل لافت غياب دور النظام الملكي. وفي الحقيقة، إن المرة الوحيدة التي يلمّح بها بنونة إلى النظام الملكي هي حين يذكر فشله في الانخراط بشكل ناجح في صناعة القرار التي كانت خلف عمليات جيش التحرير المغربي في الجنوب. ذلك أنه بعد التفاعلات المتزايدة بين بركة والبصري وبوراس قام جيش التحرير المغربي ببناء تحالف مع القبائل في منطقة آيت بعمران في 23 تشرين الثاني\نوفمبر، 1957، مهد الطريق لتحرير سيدي افني من السيطرة الأسبانية. وتلقي مذكرات محمد بن سعيد آيت ايدر المزيد من الضوء على هذا التحالف الاستراتيجي. يقول إن أحد العوامل الرئيسية التي سهلت هذا التحالف والاستيلاء على سيدي افني هو أن كثيراً من سكان منطقة آيت بعمران استاؤوا وخاب أملهم من تدهور وضعهم السياسي والاجتماعي الاقتصادي تحت السيطرة الأسبانية. (2) وازدادت هذه المشاعر بشكل خاص بعد 1956، حين حققت المناطق المجاورة لآيت بعمران في الشمال استقلالها. ويؤكد آيت ايدر أن سكان آيت بعمران كانوا واعين لحرمانهم من الموارد ورأس المال الذي كانت أسبانيا تستولي عليه، وكانت التطلعات إلى الاستقلال مرتبطة بتوقعات السيطرة على موارد المنطقة الغنية. ويذكر بنونة بشكل موجز هجوم جيش التحرير المغربي في اليوم نفسه، في 23 تشرين الثاني\نوفمبر 1957 الذي أعقب الاستيلاء على سيدي افني. شمل هذا الاستيلاء على تان تان وسمارة وادي الذهب والداخلة والعيون، والساقية الحمراء، وكلها مدن استراتيجية في الجنوب تقدمت في النهاية القوات الملكية المغربية نحوها بعد عقدين أثناء “المسيرة الخضراء” لعام 1957. وبينما يصف بنونة هذه الأحداث بمصطلحات ومعاني ضمنية، فإن قصة آيت ايدر عن هذه الأحداث أكثر تأصلاً في اقتصاد سياسي نقدي. ويستخدم آيت ايدر مصطلح “ثورة” كي يصف هذه التطورات، وعلى نحو أكثر تحديداً، ثورة آيت بعمران. ويأتي استخدامه لمصطلح ثورة بعد نظرة عامة إلى التاريخ المادي لآيت بعمران.
كان لهذه الخيارات عدة نتائج سياسية: أولاً، أشارت إلى قدرة مجموعة عسكرية قوية ومنظمة على العمل خارج نطاق القصر؛ ثانياً، هددت هذه العمليات الوضع القائم الذي تم تأسيسه بين النظام الملكي والمواقع الاستعمارية الأسبانية والفرنسية في الجنوب؛ وثالثاً، نظر الفرنسيون والأسبان إلى هذه التطورات على أنها تقود إلى تحالف بين جيشي التحرير المغربي والجزائري، الذي أسس مسبقاً مستوى من التعاون من خلال الاستخدام المشترك للأسلحة والموارد. وكان التقدم الذي أحرزه جيش التحرير المغربي في الجنوب يحدث أيضاً في  ظل أحداث إقليمية أخرى من المرجح أنه كان لها تأثير في المناورة السياسية للقوى الاستعمارية الفرنسية والأسبانية، وكله في تعاون مع السلطان محمد الخامس وولي العهد آنذاك وقائد القوات الملكية المسلحة الحسن الثاني. سيكون من الصعب ألا نضع في الاعتبار كيف أن الأحداث التي حصلت في مصر منذ بضع سنوات كان لها تأثير في إثارة مخاوف النظام الملكي المغربي من تقدم جيش التحرير المغربي، وذلك بعد إطاحة حركة الضباط الأحرار بالنظام الملكي في ثورة 1952.  
وكان لدى النظام الملكي المغربي، والنظام الفرنسي والأسباني، كل الأسباب كي يقلقوا مما يمكن أن يتمخض عنه المستقبل في حال واصل جيش التحرير المغربي اكتساب القوة في الجنوب. إن الإشارات إلى أن جيش التحرير المغربي كان يتلقى الأسلحة من جمال عبد الناصر صعدت أيضاً من هذه المخاوف. حتى بن بنونة يشير إلى أن تحركات جيش التحرير المغربي شكلت تهديداً لاستقرار وبقاء العرش. تساعد كل هذه العوامل في رسم صورة أكثر وضوحاً للأحداث التي تلت، بدءاً مما دعاه الفرنسيون “عملية إيكوفيون”، وما دعوه الأسبان “عملية أوراغون”. فقد استهدفتْ هذه العملية الفرنسية الأسبانية المشتركة جيش التحرير المغربي في الجنوب وشملت تعبئة عشرة آلاف جندي أسباني وستة آلاف جندي فرنسي وكذلك دعماً قوياً من القوى الجوية. ووصف آيت يادر هذا الحدث بأنه من أصعب الأحداث التي مر فيها جيش التحرير المغربي في الجنوب، وأجبره على موقف خطير لم يكن قادراً على معالجته، من زاوية الموارد وكذلك الرجال. واستمرت العملية العسكرية 15 يوماً.  وبعد عدة أشهر من العملية فحسب، وفي لفتة وصفها بن بنونة كـ “مكافأة” لقبول النظام الملكي، فقد انسحبت أسبانيا، بقيادة فرانكو، من سيدي افني في نيسان 1958، وتراجعت إلى المدينة الجنوبية ذات الموقع الاستراتيجي طرفاية المتوضعة قرب الحدود مع الصحراء الغربية.  بعد ذلك في الحال، عُيّن الجنرال محمد أوفقير قائداً للقوات المسلحة الملكية في طرفاية.      
في ذلك العام نفسه، كان ولي العهد والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية الحسن الثاني، يقود هجوماً آخر في الشمال يهدف إلى إضعاف المعقل الأخير للمقاومة المسلحة المرتبطة بجيش التحرير المغربي في إقليم الريف وإنهاء حضور حزب الاستقلال الذي لم يتماش مع خط القصر.  وبحسب المؤرخ المغربي نبيل ملين، أخذ الهجوم شكلاً تحت “صيغة سحرية” شكلت ما يلي: “إثارة تمرد في منطقة ريفية لفتح المجال لإعلان الأحكام العرفية والتدخل العسكري”. وهدفت الخطة أيضاً إلى استغلال النزاعات بين الاستقلال وجيش التحرير المغربي في إقليم الريف، واللعب بها، والتي نجمت إلى حد كبير عن الادعاءات بأن بن بركة أمر باغتيال عباس المسعدي في حزيران\يونيو 1956، وهو شخصية رئيسية في قيادة جيش التحريرالمغربي. وبحسب بن بنونة، أمر بن بركة باغتيال المسعدي بسبب ما تم تصوره بأنه نوايا المسعدي للوقوف مع القوات المسلحة الملكية بناء على طلب من القصر. (3) عزز هذا الزعم التأكيدات في كتاب “بن بركة”، وهو سيرة ذاتية لهذه الشخصية من تأليف زكية داوود والمعطي منجب. تورد داوود ومنجب مقابلة جرتْ مع شقيق بن بركة، عبد القادر، الذي شرح كيف أنه في 1955، قام بن بركة بعدة زيارات “خطيرة” إلى إقليم الريف. كانت أهداف تلك الزيارات، وفقاً لعبد القادر، هي تحقيق مستوى معين من التنسيق بين حزب الاستقلال والفرع الشمالي لجيش التحرير المغربي. لو كان المسعدي ينوي الصف مع القوات المسلحة الملكية لكان هذا قوض دون شك خطط بن بركة لبناء تحالف بين الاستقلال وجيش التحرير المغربي. بالتالي، سيكون اغتيال المسعدي ملائماً إلى حد كبير لبن بركة.(4)
نشأ عنصر آخر للنزاع بين الاستقلال وجيش التحرير المغربي من ديماغوجية بن بركة، التي اصطدمت مع تصور جيش التحرير المغربي للاستقلال. وبينما كان بن بركة يرغب في أن يفاوض من أجل فكرة لاستقلال المغرب “أكثر براغماتية على الصعيد السياسي” ، فقد تمسك جيش التحرير المغربي بفكرة “استقلال كلي في المغرب كله”، والذي يشمل الجزائر، والجيبين الأسبانيين سبتة ومليلية، والصحراء الغربية. كانت هذه الصدامات السياسية سبباً للجدل أثناء مفاوضات إكس ليبان، المفاوضات الخاصة باستقلال المغرب، في أيلول\سبتمبر 1955. وكان على البصري (كقائد لجيش التحرير المغربي في الجنوب) التدخل كي يقنع أعضاء جيش التحرير المغربي في الشمال للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع بن بركة. وقد هيأت هذه العلاقات العدائية بين جيش التحرير المغربي في الشمال وحزب الاستقلال الخلفية لخطة حسن الثاني كي يثير تمرداً يفتح مجالاً لتدخل القصر في الريف. وبحسب ملين، كانت الخطة “نبش جثث عدد من مقاتلي المقاومة الذين سقطوا في القتال أو اغتيلوا، وكان الأبرز بينهم عباس المسعدي، منسق جيش التحرير المغربي في الناظور، من أجل تنظيم جنازات فخمة”. أضاف ملين أنه حالما نُفِّذَ قرار تنظيم تلك الجنازات في 2 تشرين الثاني\أكتوبر 1958، والذي يحدد الذكرى الثالية لتأسيس جيش التحرير المغربي، تحولت الجنازات إلى مظاهرات ضخمة ضد حزب الاستقلال، مما أدى إلى صدامات عنيفة وأمنت مدخلاً للتدخل العسكري لاستعادة النظام. ويشير ملين إلى كيف أن السلطان قرر أن يحيي بعد شهر احتفالات يوم العرش في مدينة تطوان الشمالية، معبأ 13000 جندي “بحجة تنظيم عرض عسكري”. وبدلاً من ذلك تم تطبيق الأحكام العرفية في 26 تشرين الثاني\نوفمبر مما سمح للقصر بتعيين حلفاء مخلصين في إقليم  الريف، مثل ما حفّز على تعيين الجنرال أوفقير في طرفاية.
هناك مسألة ما تزال قيد الجدل إلى حد كبير وهي أصول وتطور ودرجة التنسيق بين فرعي الشمال والجنوب من جيش التحرير المغربي. ما هو واضح هو أن جيش التحرير المغربي أنشأ فرعه الذي في الشمال قبل الذي في الجنوب. ويورد عبد الله كيكر عدة سيناريوهات وتفسيرات لكيف ولماذا قرر جيش التحرير المغربي أن يوسع عملياته في نحو الجنوب.  تتنوع بعض هذه التفسيرات من استمداد جيش التحرير المغربي للإلهام من مزاعم علال الفاسي بأن موريتانيا كانت في الحقيقة جزءاً من المغرب، وأن فرع جيش التحرير المغربي في الجنوب تأسس لدى إطلاق سراح عدد من المقاتلين الوطنيين وكجزء من صفقة سياسية. ويوحي غياب الإجماع على أصول ودرجة التعاون بين الفرعين الشمالي والجنوبي لجيش التحرير إما بدمقرطة البنية أو دمقرطة الذاكرة، وربما بكليهما. ما هو واضح هو أن جيش التحرير المغربي في أوجه أسس تنظيماً دينامياً انخرط بانتظام في مجادلات غنية حول مسائل الوطنية وتصورات المواطنة، والتاريخ والسياسة بعامة. وقد تجسد هذا في النصف الثاني من مذكرات آيت ايدر، والتي هي مجرد رسائل تم تبادلها بين قيادة الفرع الجنوبي لجيش التحرير المغربي.إن هذه الرسائل والعائدة كلها إلى عام 1957 وبعده، تتضمن توسلات ملحة من أجل المساعدة الطبية، وسجلات محاسبة، وجمع معلومات استخبارية حول علاقات المغرب مع أسبانيا، وحتى مناقشات داخلية حول ما يجب أن يكونه هدف ودور جيش التحرير المغربي بعد استقلال المغرب. وكانت الاستنتاجات المستمدة من الموضوع الثاني هي أن مقاومة جيش التحرير المغربي المسلحة والمضادة للاستعمار لن تتوقف إلى أن تتحرر الجزائر و”الصحراء الكبرى”. وتتضمن الرسائل المتبادلة أيضاً مسوحات بيئية وجغرافية للصحراء. إن هذه التبادلات، وعلى نحو جماعي، تشير إلى أنه حتى بعد الاستقلال، كان جيش التحرير المغربي قوة نافست قدرات القوات الملكية المسلحة في ذلك الوقت.    
وفي أيلول\سبتمبر 1959، انفصلت شخصيات عن كل من حزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي كي تؤسس الاتحاد الوطني للقوى الشعبية، بما فيه بن بركة وبوعابد والبصري. وفي آذار 1960، تم حل جيش التحرير المغربي. يقول بنونة:”بعد التقطيع المتواصل لأعضاء جيش التحرير المغربي، أصبح الجيش في 1960 عبارة عن شبكة من الخلايا المتناثرة في البلاد، والتي نشد قادتها، الذين لم يكونوا في السجن أو المنفى، التخفي”. يصف محمد بن سعيد آيت ايدر استهداف النظام الملكي لقادة جيش التحرير المغربي في 1960 بأنه “فاجأ عدداً كبيراًمن الوطنيين في المجال السياسي الذين استخفوا بمدى هذه الحملة”. 
إن عبد الله كيكر أكثر ارتياباً في تقويمه لهذه المحاولات لتقويض جيش التحرير المغربي، فقد عزا انقساماته وانهياره إلى قيام بضعة أفراد “بالسعي وراء الكسب الذاتي، أو مصالح مرتبطة بروابط عائلية أو سياسية أو قبلية”. (6)  وفي أيار\مايو 1960، استبدل القصر الحكومة التي قادها عبد الله ابراهيم، واضعاً مجلس الوزراء والبرلمان بشكل مباشر تحت سيطرة القصر، وصار الحسن الثاني ما يشبه “نائب الرئيس” إلى جانب  محمد الخامس. وفي تموز\يوليو 1960، عُيِّنَ الجنرال محمد أوفقير  (الذي سينتحر فيما بعد أو يُعدم، ما يزال السبب الرسمي لموته مثاراً للجدل، في 1972 بسبب دوره في محاولة الانقلاب العسكرية الثانية) كرئيس لفرقة القوات الملكية المسلحة في المعقل الجنوبي طرفاية، وسمي مدير الأمن القومي والاستخبارات.     
إن تقويم بنونة لهذه التطورات السياسية التي تقود إلى 1960 هو ما يلي:”كان الهدف الرئيسي للقصر هو شل جيش التحرير المغربي من خلال تحييد القادة الرئيسيين”(7). وبينما كان هناك بالتأكيد استهداف منهجي لجيش التحرير المغربي، فإن موضعة هذه الأحداث داخل عملية تشكل الدولة ومزج النقاشات لهذه الأحداث مع نصوص أخرى سيوحي أن خطة محسوبة أكثر لتدعيم ومركزة سلطة القصر كانت تتخذ شكلاً. بالإضافة إلى ذلك، يعترف آيت نادر أن لهذه الأحداث معاني ضمنية تتعلق أكثر بتوازن القوة الذي وُجد في بداية الاستقلال:”في الحقيقة لم تكن هذه المناورات أفعالاً اعتيادية أو معزولة، لكن كثيراً من المحللين يعتبرون هذا بداية محاولة لتغيير الموازين التي أنشأها الصراع الوطني”. (8،) تبين هذه الأحداث أن سلطة النظام الملكي أثناء الأعوام الأخيرة قبل ومباشرة بعد الاستقلال، كانت مهتزة، وخاصة حين كان الأمر يتعلق بأطراف المملكة. وفي الواقع لم ينشد النظام الملكي تأكيد حكمه في الأطراف البعيدة للمملكة فحسب، بل سعى في الوقت نفسه أيضاً إلى تأكيد نوع معين من الحكم يزيل الضوابط والتوازنات، حيث أن احتمال تحالف بين حزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي يمكن أن يقوض احتكار النظام الملكي للسلطة.   
بالتالي، في الوقت الذي أُعْلن فيه دستور المغرب الأول في 1962 ثم طُرح لاستفتاء شعبي (الذي قاطعه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة بن بركة)، فإن السلطة المركزية وغير المفحوصة للملك كانت مسبقاً حقيقة واقعية، وكان وضع إطار قانوني لترتيبات سلطوية كهذه مجرد إجراء شكلي.
وبما أن جيش التحرير المغربي كان القوة  المنظمة الرئيسية في المناطق الطرفية للمغرب في تلك الفترة، فإن جعل سلطة القصر مركزية كان يجب أن يأتي على حساب إما تبني أو تصفية جيش التحرير المغربي. ما حدث كان مزيجاً من التبني والتصفية: تم دمج بعض العناصر في القوات المسلحة الملكية (ما يزعم السرد الرسمي للدولة أنه كان السيناريو الوحيد بعد الاستقلال)، بينما تمت تصفية عناصر أخرى بعنف، ونشد العناصر الباقون المنفى، وإلى حد كبير في الجزائر، أو تخفّوا.  وتلقي هذه الأحداث الضوء أيضاً على إعادة تشكيل الفرع الجنوبي من جيش التحرير المغربي، الذي، خاب أمله من المشروع الوطني المغربي، خاصة بعد العنف الحاصل أثناء عملية إيكوفيلون وأوراغون، فوضع أسس حركات تحرر تالية في الصحراء الغربية، مثل حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في 1976، وفيما بعد، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في 1973. (9)
ومن خلال إعلان الأحكام العرفية في إقليم الريف وتأسيس حضور دائم للقوات الملكية في طرفاية بقيادة الجنرال أوفقير، تمكن القصر من بسط سلطانه خارج المدن الملكية للرباط وفاس ومكناس ومراكش، وفرض سيادته في الأصقاع الأبعد للمملكة من الشمال إلى الجنوب.    
جاء تأكيد السيادة هذا على حساب تصفية جيش التحرير المغربي الذي كان دوره في الصراع الوطني من أجل الاستقلال جوهرياً، لكن وجوده المستمر بعد الاستقلال برهن أنه غير ملائم سياسياً أو عسكرياً للقصر. إن السرد التاريخي الرسمي للدولة يتذكر وينسى انتقائياً، من خلال هذه العدسات التاريخية، جيش التحرير المغربي، كما توضح المذكرات التي نشرتها المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، المستندة إلى السرد التاريخي المعروض في المتحف الوطني لجيش التحرير المغربي، كما سيبين الجزء الثاني من هذا المقال.
[ترجمة: أسامة إسبر]
[اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية من المقال ]
هوامش:
[1] Zakya Daoud and Maâti Monjib, Ben Barka. Paris: Éditions Michalon (1996).
[2] Mohamed Bensaid Ait Idder, Watha'iq jaysh altahrir fi janoub almaghrib 1956-1959, Casablanca: Nashr markaz Mohamad Bensaid Ait Idder, 2011, pp. 45.
[3] Mehdi Bennouna, Héros sans gloire: Echec d’une révolution, 1963-1973. Casablanca: Tarik Editions (2002), pp. 35.
[4]- في القسم نفسه تورد داوود والمنجب المقابلة مع شقيق بن بركة. يذكران أيضاً كيف أن نشاط بن بركة في محاولته لبناء تنسيق بين حزب الاستقلال وجيش التحرير المغربي ولّد عداء العصابة الفرنسية المتطرفة “اليد الحمراء”. رداً على ذلك، اغتال أعضاء عصابة اليد الحمراء في  حزيران\يونيو 1955جاك لومير دوبري وهو رجل أعمال ليبرالي فرنسي متعاطف مع القضية الوطنية المغربية. سيناقش هذا البحث هذا الحدث في القسم الخاص بالمتحف الوطني لجيش التحرير المغربي، حيث السيارة التي اغتيل داخلها لوميغر دوبريل معروضة في مدخل المتحف. 
Zakya Daoud and Maâti Monjib, Ben Barka. Paris: Éditions Michalon (1996), pp. 139.
[5] Abdallah Kikr, Tajawzat jaysh altahrir aljanoubi fi Souss min khilal alriwayat wa alshihadat 1956-1960, Rabat: Imprimerie Rabat Net Maroc, 2011, pp. 20.
[6] Ibid, pp. 16.
[7] Mehdi Bennouna, Héros sans gloire: Echec d’une révolution, 1963-1973. Casablanca: Tarik Editions (2002), pp. 37.
[8] Mohamed Bensaid Ait Idder, Watha'iq jaysh altahrir fi janoub almaghrib 1956-1959, Casablanca: Nashr markaz Mohamad Bensaid Ait Idder, 2011, pp. 27.
[9] Osama Abi-Mershed and Adam Farrar, "History of the Conflict in Western Sahara," in Perspectives on Western Sahara: Myths, Nationalisms, and Geopolitics, edited by Anouar Boukhars and Jacques Roussellier, Lanham: Rowman & Littlefield, 2013, pp. 24 
Latest posts in Maghreb
 :.........................

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق