المتابعون

السبت، 5 ديسمبر 2015

إعدام حكومة عبد الله إبراهيم اغتيال لمغرب الأمل والمستقبل

إدريس ولد القابلة
العدد: 2621 - 2009 / 4 / 19 - 04:16
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي

إعدام حكومة عبد الله إبراهيم اغتيال لمغرب الأمل والمستقبل




7

قال الحسن الثاني، عندما كان وليا للعهد، لعبد الرحيم بوعبيد :" أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم، لكن باعتبارك صديقا سأقول لك (ما في الأمر)، أنت لا ترى فيَّ سوى ولي العهد فقط، والحال إنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك يحذوني الطموح إلى لعب دور في حياة بلادي، أنت تعرف أن أبي لازال شابا، وأنا سوف لن أنتظر حتى أضع طاقم أسنان لكي أخلفه.. هو ذا عمق تفكيري...".
وبإعدام حكومة عبد الله إبراهيم، اغتال الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك) تجربة الأمل المبكرة في دسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية،وبذلك رزئ الشعب المغربي في أحلامه الوردية المنتظرة بعد محن المقاومة والكفاح والتضيحات الجسام، وكان الاستقلال "على صيغة إيكس لي بان.. بداية لمسيرة إحباط تلو إحباط.
حكومة عبد الله إبراهيم حلم لم يكتمل بفعل ظروف تأسيس هذه الأخيرة والمصاعب التي صادفتها، ونشاط الطابور الخامس، ومع ذلك رسمت تلك الحكومة خطة وبدأت تحقق بعضا من أهدافها، وهي الإنجازات بل"نصف" الإنجازات التي لم تقو مختلف الحكومات المتعاقبة على المغرب منذ 20 مايو 1960 على تحقيق جزء يسير منها، هذا رغم أن عمر الحكومة المغتالة لم يكن يتجاوز بالكاد ربيعا ونصف.. فجاء اغتيال أمل المغاربة مبكرا في دمقرطة دولة "المغرب السعيد".
تكمن أهمية موضوع هذا "الاغتيال" في كون الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تخللت فترة 1959-1961، قد شكلت منعطفا حاسما في مسار المغرب وشعبه، وهيأت منذئذ لانطلاق آليات ودواليب صناعة الإحباطات والانكسارات، وهو الواقع الذي أضحى قدر المغاربة من 1956 إلى يومنا هذا. فمحطة اغتيال حكومة عبد الله إبراهيم مازالت ترخي بظلالها وعِبَرها علينا إلى حدود اليوم، ولازال المغاربة جيلا بعد جيل يؤدون ثمنها.
لم تعش تلك الحكومة أكثر من 20 شهرا، (520 يوما)، إلا أنها فتحت أوراشا مصيرية في تاريخ الشعب المغربي لم تتمكن أي حكومة، قبلها ولا بعدها، من تحقيق مثل هذا الفتح بل ظلت لا تتنافس إلا حول المزيد من اندحار المشروع الوطني، وبذلك ساهمت في تكريس مظاهر القتامة ودوافع المزيد من الإحباط.
فماذا كان سيقول عبد الله إبراهيم في مذكراته لو نشرها؟ وكيف انهزم الشعب المغربي وانتصر الانتهازيون من مصاصي دماء المغاربة منذ اقتراف جريمة اتفاقيات "إيكس لي بان" و "سان كلو"؟ ولماذا لازال المغاربة ينتظرون إلى حد الآن حكومة وطنية شعبية تقوم بمنجزات من عيار ما قامت به حكومة عبد الله إبراهيم المغتالة في بداية الطريق؟
هذه أسئلة وهناك أخرى، مازالت تؤثث لهمّ مستدام حمله الكثير من المغاربة، ملف هذا العدد سيساهم في إبراز بعض الزوايا الجديدة لمقاربة الجواب عليها.

الرجل الذي يتكلم صامتا

يعتبر عبد الله إبراهيم آخر رئيس حكومة عرفه المغرب المستقل بعد امبارك البكاي الهبيل وأحمد بلافريج، ليأتي بعدهم الوزراء الأولون، علما أن تغيير الصفة طرأ لأمر في "نفس يعقوب".
قال محمد الباهي عن عبد الله إبراهيم.. نادرا ما يتكلم، يتأمل ويفكر ويكتب كثيرا، عرف بالرزانة السياسية والنبوغ الفكري والإنتاج الفلسفي، إنه ذاكرة الفكر السياسي المغربي، الذي لم تكن الابتسامة تفارقه ولو في أحلك الظروف وفي أوج مقاومته للانتهازية السياسية.
قالت عنه أم الملك الحسن الثاني وجدّة الملك محمد السادس، لالة عبلة.. "الشريف والولي المناضل، كان وطنيا صادقا، بل وسيد الوطنيين جميعا".
ومن بين المحطات المضيئة خلال مسيرته المتميزة، أنه ساهم في صياغة العهد الدولي لحقوق الإنسان (1948) في مدينة جنيف بسويسرا، إذ يعتبر من المغاربة القلائل الذين كانوا يناقشون ولي العهد (الحسن الثاني) الند للند، حيث لم يكن يفوّت له أي لمز أو أية "برقية مستترة بين عبارتين"، لقد حصل ذات مرة أن قال له الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك):".. آمولاي عبد الله راك غير أنت للي واقف لي في الطريق... راه المغاربة كلهم نشريهم بفلوسي"، فرد عليه عبد الله إبراهيم دونما تردد:" سميت سيدي أنتم مخطئون، ما ذكرتموه لا ينطبق على كافة المغاربة".
ولد في غشت 1981 بتامصلوحت ضاحية مراكش، حيث ترعرع وسط عائلة بسيطة، التحق بـ "لمسيد"، الكتاب القرآني الذي أشرف عليه خاله قبل ولوجه مدرسة ابتدائية حرة كان قد أنشأها الباشا الكلاوي سنة 1922، وفي الثلاثينات أصبح عبد الله إبراهيم معلما بإحدى المدارس بمراكش، وبعد ذلك تابع دراسته العليا. إنه عالم من علماء معهد ابن يوسف، حيث نال شهادة العالمية في صيف 1945 تحت إشراف "شيخ الإسلام" محمد بلعربي العلوي، ثم التحق بفرنسا ليتخرج من أشهر جامعة فيها " السوربون" ومعهد الدراسات الشرقية بباريس، ليلمع نجمه في الصحافة المشرقية والمغربية، وقد حاول الجمع بين السياسة والأخلاق لكنه لم يفلح.
توجه إلى الديار الفرنسية، بين 1945 و 1949 درس وناضل، فقال محمد الحبيب الفرقاني بهذا الخصوص، "لقد ذهب أستاذنا إلى فرنسا شخصا معينا، ليعود منها شخصا آخر في أفكاره وتوجيهاته ومنهجياته مما أسدى لنا جميعا خدمات شتى في مختلف فروع المعرفة".
ويقر محمد لومة، على لسان عبد الله إبراهيم، أن هذا الأخير غادر المغرب في صيف 1945 بسبب فقدان الأمل أولا، في سياسة الحكومة الفرنسية تجاه مطالب الحركة الوطنية، وثانيا لعدم وجود إمكانية مواجهة حزب الاستقلال وقيادته لمهام المرحلة اعتبارا لعدم تجانسها وضعفها الفكري والتنظيمي وافتقارها إلى رؤية واضحة المعالم ومحددة الأهداف، وكذلك لهيمنة "الزاوية" على العمل التنظيمي.
ذهب عبد الله إبراهيم إلى باريس واستقر بزنقة "سيربانت" حيث عاش وضعية مادية صعبة، إذ غالبا ما كان يقضي نهاية الشهر في ظروف قاسية، حيث عاش في محل كان سابقا مقرا لمعهد فيكتور هيكو، اقتناه عبد الهادي الديوري لجعله رهن الطلبة المغاربة، وبه قطن عبد الرحمن اليوسفي وامحمد بوستة وأحمد العلوي بنجلون والمهدي بنعبود وآخرون.
عاد عبد الله إبراهيم إلى المغرب في شتنبر 1949 وأشرف على هيأة تحرير جريدة العلم، كما أسندت إليه قيادة حزب الاستقلال مهمة تدبير ملف الشؤون النقابية.
التحق بميدان النضال وعمره لا يتجاوز 16 سنة، ليصبح مسؤولا في المجلس الأعلى لكتلة العمل الوطني فيما بين 1934 و 1936، حيث ساهم في تجربة الحزب الوطني ابتدءا من عام 1937، وقد تعرض لأشرس أشكال القمع والتنكيل على يد المقيم العام الجنرال "نوكيس"، كما كان من الموقعين على عريضة 11 يناير 1944.
ذهب إلى فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية وتعرف هناك على مجموعة من التيارات، حاور الماركسيين والتروتسكيين والوجوديين والسورياليين وغيرهم، وبذلك عزز التعريف بالقضية المغربية وساهم في التنسيق بين الحركات الوطنية المغربية والمغاربية وقد كان له دور بارز في توجيه المغرب نحو الاستقلال وإرساء الدولة الوطنية.
إنه أحد صناع الكتلة الوطنية وأحد مهندسي ميلادها سنة 1970 سعيا وراء وضع حد لإحباط المغاربة وطرد اليأس من نفوسهم عبر المصالحة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني لتوفير شروط المشاركة الحقيقية.
كما أنه أحد رواد الجامعة المغربية، حاضر في تاريخ الأفكار والتاريخ الدبلوماسي، وكان باحثا في تاريخ المغرب، سياسة وفكرا ومجتمعا.
من أهم ما خلص إليه في أحد مؤلفاته أن هناك أربع مشاكل ظلت ضاغطة على المغرب على امتداد ثلاثة آلاف سنة من عمره، وهي " مشكلة الحكم والأرض واللغة وبناء المغرب العربي".كما أن مؤلفه "الإسلام في آفاق سنة ألفين" يعتبر قراءة تدعو إلى أن يتبوأ العقل درجة من التقدير والاحترام، تسمح بالتجديد والاجتهاد وتخويل النصوص جميع الدلالات التي تستلزمها دينامية تطور المجتمع.


الحكومة الموازية... الطابور الخامس

في سنة 1985 أقر أحمد رضا اكديرة شخصيا، وبواضح العبارة، أنه تم تشكيل، برئاسة ولي العهد (الحسن الثاني) وعضوية آخرين، حكومة موازية للحكومة القائمة آنذاك، كان هدفها الأساسي هو إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم.
وقد تكون الطابور الخامس من أحمد رضا اكديرة وأحمد الغزاوي وإدريس المحمدي وامحمد باحنيني وأحمد العلوي، والجنرال الكتاوي والكولونيل أوفقير آنذاك وغيرهم كثير، سيفتضح أمرهم لاحقا.
خلال الأيام الأولى على تعيين حكومة عبد الله إبراهيم تشكلت الحكومة الموازية، وكانت مهمتها إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، باستعمال كل وسائل العرقلة والمناهضة والتنغيص والهدم والطعن من الخلف بنصب المكائد ووضع الدسائس. ومما سهل مأمورية الحكومة الموازية أن ولي العهد (الحسن الثاني) كان يشرف على القوات المسلحة الملكية ومختلف أجهزة الأمن والمخابرات، وقد كانت علاقاته متينة مع أغلب المتحكمين في الإدارة، إذ اخترقت صلاته كل دواليب الدولة، في حين لم يكن يحظى عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة إلا بدعم نسبي جدا من طرف حزب الاستقلال والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
أسر عبد الله إبراهيم للكاتب محمد لومة، قبل وفاته أنه كانت تأتيه أخبار كثيرة، مفادها أن محمد العزاوي (المدير العام للأمن الوطني والحامل للجنسية الأمريكية) كان يشترك مع مجموعة هامة من المناهضين للحكومة برئاسة ولي العهد (الحسن الثاني)، وكان شغل هذه المجموعة الشاغل هو العمل على إعفاء الحكومة في أسرع الأوقات.. وبذلك كانوا ينثرون هنا وهناك الوعود بإسقاطها ولم يكن قد مضى على ولادتها سوى بضعة أسابيع.
تحالفت جريدة "الأيام" الاستقلالية منذ صدور عددها الأول في 3 مارس 1959 مع "الطابور الخامس" لإعدام حكومة عبد الله إبراهيم، وقد كان عدد صفحاتها آنذاك ثمانية، خصصت جميعا للنيل من الحكومة، وكان الزعيم علال الفاسي يوقع أحيانا افتتاحياتها، وقد توقفت هذه الجريدة عن الصدور بمجرد تنحية حكومة عبد الله إبراهيم.

القضية الجزائرية وإسقاط الحكومة

كثيرون هؤلاء الذين يعتقدون أن موقف عبد الله إبراهيم الحازم والشجاع من القضية الجزائرية آنذاك كان من الأمور التي عجلت بإسقاط حكومته التقدمية.
لقد سبق لمحمد لومة أن سأل الأستاذ عبد الله إبراهيم بخصوص الجهات المغربية الوازنة التي تواطأت احتمالا مع السلطات الفرنسية لإنجاح عملية اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين الخمسة في صيف 1956، وتوجيهها نحو فرنسا لاعتقالهم، علما أن بعض الجهات سبق لها أن حاولت اتهام ولي العهد (الملك الحسن الثاني) حينئذ، إلا أن رد الأستاذ عبد الله إبراهيم كان قاطعا، إذ أكد أن ليست لديه أدلة كافية لاتهام هذه الجهة أو تلك من داخل المغرب بهذا العمل الإجرامي الذي أثار موجة من المظاهرات المعادية للفرنسيين في مختلف المدن المغربية، نجمت عنها خسائر في الأرواح والممتلكات. وفور بلوغ الخبر إلى علم قيادة جيش التحرير تشكلت مجموعة مسلحة توجهت إلى مطار الرباط ـ سلا، قصد اعتقال التقنيين الفرنسيين إلا أنهم كانوا قد غادروا التراب المغربي فور نجاح العملية، وقد سبق أن بعثوا بعائلاتهم إلى فرنسا قبل ذلك الوقت بحين، وهو ما أكده الفقيه البصري قبل وفاته.

المدبوح بيدق ولي العهد

بإيعاز من ولي العهد آنذاك (الحسن الثاني)، قدم القبطان محمد المدبوح وزير البريد آنذاك استقالته من حكومة عبد الله إبراهيم، بدعوى الاحتجاج على فحوى توصيات مؤتمر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أ.و.ط.م)، المنعقد في أكادير أواخر شهر غشت عام 1959. ولم يكن يخفى على أحد ـ كما أكد ذلك محمد لومة ـ أن محمد المدبوح يجر خلفه ماضيا خيانيا بامتياز بفعل ممارسات وسلوكيات والده إبان ثورة أمير الريف، محمد عبد الكريم الخطابي، إذ أشرف شخصيا أكثر من مرة على قمع الثورة والتنكيل بالمجاهدين، فقاموا بذبحه، لذلك حمل أولاده لقب "المدبوح".
ومن المعلوم أن الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك) هو الذي فرض عضوية بيدقه، القبطان محمد المدبوح، على حكومة عبد الله إبراهيم التقدمية ليضطلع باحتلال كرسي وزير البريد، كونها وزارة سيادية وقتئذ، لارتباطها بالتجسس والتنصت على التقدميين، كما أن ولي العهد هو الذي دبر أمر تزويجه من ابنة الماريشال محمد مزيان (زليخة)، وكان الغرض من هذه الاستقالة هو إعدام الحكومة التقدمية، وقد برر محمد المدبوح تقديم استقالته بعدم قبوله ما ورد في إحدى توصيات (أ.و.ط.م) التي نصت على كون المؤتمر صادق على ملتمس خاص بالجيش، مطالبا بتطهيره من الخونة وضرورة خضوعه للسلطات المدنية وتجنيده للتشييد والبناء، بدلا من الحفلات والسهرات، كما طالب الملتمس بإجراء تحقيق بخصوص الأسباب الحقيقية لانتفاضة الريف، ومعاقبة من كانوا وراءها ( أي الأسباب)، علما أنه لم ينبس ببنت شفة أي جنرال ولا كولونيل ولا حتى كومندار آنذاك بهذا الخصوص مع أنهم كانوا الأولى بذلك بدل مجرد قبطان.
وللإشارة يرى العديد من المهتمين بأن من جملة الأسباب التي دفعت ولي العهد (الحسن الثاني) إلى إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم اتخاذها قرار إعفاء المساعدين العسكريين والأمنيين الفرنسيين من مهامهم بالمغرب آنذاك، حيث لم يستسغ ولي العهد إعفاء مساعده الأيمن الكومندار "بلير" أحد عملاء المخابرات الأمريكية والإسرائيلية في منتصف مايو 1960، أسبوعا واحدا فقط قبل إعدام الحكومة.

لحظات إحباط وغبن

فاوض الملك محمد الخامس عبد الله إبراهيم عدة أسابيع ليقبل منصب رئيس الحكومة بتزكية من الشيخ محمد بلعربي العلوي، وطبعت ظروف موافقة عبد الله إبراهيم تشكيل الحكومة التي ظلت تحمل اسمه حتى الآن، جملة من الأسباب ألزمته بالقدوم على ذلك رغم رفضه في البداية وعدم حماسه، وقد أثرت عليه ضغوطات أساتذته وأمير الثورة الريفية، محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأقطاب القوى الحية في المجتمع المغربي آنذاك، بموازاة مع إلحاح الملك محمد الخامس إلى حد جعل الملك يخيره قائلا :" إما أن تقبل تشكيل الحكومة وإما أن أغادر نهائيا نحو مكة أو المدينة لأمكث هناك مبتعدا إلى أن يقبض الله روحي".
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي رفض فيها عبد الله إبراهيم الاستوزار، إذ سبق وأن عبر عن نفس الموقف بخصوص حكومة البكاي الأولى والثانية وحكومة بلافريج.
من المعروف أن عبد الله إبراهيم ناهض اتفاقيات "إيكس لي بان" جملة وتفصيلا، ومع ذلك تم إخباره ليلة تشكيل الحكومة الأولى (1955) بضرورة المشاركة فيها، ويرجع عبد الله إبراهيم هذا الأمر إلى أن قادة حزب الاستقلال كانوا يعتقدون بأن الحكومة لن تظل في موقع مريح إذا لم يشارك فيها، وذلك من باب اتقاء شره عبر إشراكه في اللعبة بأي شكل من الأشكال، وهذا ما سيتكرر بالتمام والكمال عشية تشكيل حكومة أحمد بلافريج في مايو 1958.
في البداية رفض عبد الله إبراهيم المشاركة في حكومة البكاي، وظل متشبثا بموقفه إلى آخر لحظة،إذ استمر ضغط الملك محمد الخامس عليه إلى حدود صباح الإعلان عن الحكومة في إحدى أيام دجنبر 1955، إذ قبل منصب كاتب دولة مكلف بالأنباء وناطق باسم الحكومة، علما أنه لم يتكلم بهذه الصفة إلا مرة واحدة طيلة مشواره.
وفي الحكومة الثانية التي ترأسها البكاي أيضا، اضطلع عبد الله إبراهيم بوزارة التشغيل والشؤون الاجتماعية، والتي دخل خلالها في صراعات مريرة مع الموالين للاستعمار وأصحاب رؤوس الأموال.
ورغم أن أحمد بلافريج كان من أعز أصدقاء عبد الله إبراهيم، لم يقبل هذا الأخير الاستوزار في حكومته (الحكومة الثالثة)،إذ كان يعتبره ضعيف الشخصية ولا تتوفر فيه المواصفات الضرورية ليضطلع بمنصب وزير أول، سيما في تلك الفترة العصيبة التي كانت تجتازها البلاد، إذ سرعان ما تجلى ضعف هذه الحكومة، التي أصابها الشلل الكلي بفعل نسف عبد الرحيم بوعبيد لها عندما قدم استقالته منها في 25 نوبر 1958.
لم يفهم الكثيرون، إلى حد الآن، لماذا قبل حزب الاستقلال، القوة السياسية الأولى آنذاك، إقامة أول حكومة للمغرب المستقل دون أن يتحكم فيها، عوض أن يديرها موالون للاستعمار، هم خونة الأمس، الذين ساقوا المغرب إلى متاهة تلو أخرى حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من إحباط تلو إحباط منذ 1956.
لقد قبل بعض قادة حزب الاستقلال المشاركة في حكومة البكاي غير المتجانسة، بل دخل بعضهم (رفاق عبد الله إبراهيم داخل زنزانة السجن المركزي بالقنيطرة) في مفاوضات سرية، دون علمه، قصد التمكن من الاستوزار فيها، وذلك رغم أن القصد من إنشاء هذه الحكومة بدا بوضوح لمتتبعي الأوضاع وقتئذ، حيث كان الهدف هو خلق حكومة على مقاس محميي الاستعمار والخونة والمعمرين الجدد، لكن بتزكية الحركة الوطنية، وهذا هو الخطأ الأصلي الذي اقترفه حزب الاستقلال. بل لم يكتف هذا الأخير بتزكية حكومة البكاي الأولى، وإنما ساند كذلك من حيث يدري أو لا يدري، الإقصاء الممنهج لرجالات المقاومة وجيش التحرير.
لقد أطلق على هذه الحكومة "حكومة التدبير والمفاوضات" علما أنها لم تكن تتوفر على وزارتي الدفاع والخارجية، وقد ترأسها مبارك البكاي الهبيل (باشا صفرو)، وهو أحد قدماء المحاربين في صفوف الجيش الفرنسي.

خيبة أمل

بعد إسقاط حكومته، أغلق عبد الله إبراهيم باب بيته، مكتفيا ببعض اللقاءات بين الفينة والأخرى، في حين كان المحجوب بن الصديق يعمل كل ما بوسعه لجعل الاتحاد المغربي للشغل مرتبطا بتعليماته الخاصة فقط دون سواه، بينما سار باقي رفاق عبد الله إبراهيم على درب البحث عن مختلف السبل للتخلص منه وإبعاده.
بدأ مسلسل الإحباط وخيبة الأمل منذ اكتشافه للمفاوضات السرية وهو قابع بإحدى زنازن السجن المركزي بالقنيطرة، فعندما كان أعضاء قيادة حزب الاستقلال بالسجن على خلفية الاحتجاج على مصرع فرحات حشاد، لاحظ عبد الله إبراهيم، ان كل من محمد اليزيدي وعبد الرحيم بوعبيد، اللذان كانا يقبعان بزنزانة محاذية لزنزانته، قد دأبا خلال شهور على زيارة إدارة السجن بطريقة مشبوهة.
ولما سألهما عن الأسباب، أجاباه بأنهما يذهبان من أجل قراءة الجرائد الفرنسية في الإدارة، إلا أن الصدمة كانت قوية عندما وقعت بيد عبد الله إبراهيم، صدفة صحيفة "لوبوتي ماروكان" وقد كانت موجهة إلى غيره، فوجد عليها عنوانا عريضا يفيد أن المفاوضات السرية مع قيادة حزب الاستقلال قد نجحت.
استشاط غضب عبد الله إبراهيم،ولما سأل كل من عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازيدي تأكد له أن الأمر الذي اعتبره خيانة، سرعان ما سيتوج باتفاقيات "إيكس لي بان" و"سان كلو" كمقدمة لتوريط المغرب في متاهات رهيبة لازلنا نؤدي ثمنها حتى الآن، ومن هنا بدأت المؤامرة ضد حملة السلاح الجزائري، جيش التحرير ووحدات جبهة التحرير الوطني الجزائري ومنظمات المقاومة.
علما انه في هذا الوقت بالذات تم تصعيد عمليات تنفيذ أحكام الإعدام في حق المقاومين : إعدام 68 مقاوما سنة 1954 تلاها 26 إعداما آخر أواخر سنة 1955، لعل أبرزها إعدم حمان الفطواكي في 9 أبريل 1955، أي شهورا قليلة قبل تشكيل أول حكومة وطنية، إنها الخطيئة الكبرى التي أدت إلى خطايا أكبر منها على امتداد عقود بعد ذلك، وهكذا تمكنت فرنسا من ترك طابور خامس بين ظهرانينا من العيار الثقيل، من بين عناصره رجالات محسوبة على الحركة الوطنية ومقربة جدا من قيادة الدولة.
وشعر عبد الله إبراهيم مجددا بالمرارة عندما لجأ بعض رفاقه بالأمس إلى الكفاح المسلح لقلب النظام دون الاعتماد على قرار من القيادة الحزبية، وبذلك عرضوا الحزب لحملات قمع غير مسبوقة من 1960 إلى 1974 نتج عنها اعتقال ونفي وتشريد وإعدام واغتيال واختفاء عدد كبير من المقاومين والمناضلين، وزاد غبن عبد الله إبراهيم حين تَمَّ إبعاده عن مؤتمرات الحزب من 1972 إلى 1974.

مواقف ونوادر

سبق أن ورد في نشرة "الاختيار الثوري" انه على إثر المضايقات التي أضحى يتعرض لها جيش التحرير في الجنوب فيما بين 1958 و 1959 بعد عملية "إيكفيون"، حيث كان أحمد رضا اكديرة وزيرا للدفاع، أن استدعى ولي العهد (الحسن الثاني) عبد الله إبراهيم إلى فيلا السويسي، وخلال مجرى حديثهما قال الحسن الثاني " إن الملك هو كل شيء، أما الوزراء فليسوا معنيين ولا رأي لهم إلا من خلال الملك".. ثم أضاف "[...] في القرآن آية يطلب فيها موسى من ربه أن يجعل له هارون وزيرا من أهله..." فرد عليه عبد الله إبراهيم قائلا :"[...] تناسيت "أشركه في أمري" النصف الآخر من الآية، فأجابه الحسن الثاني بأن الإشراك متعلق بإرادة الملك.
كما أنه في مجرى هذا الحديث قال الحسن الثاني :"إن الأحزاب كواسطة بين الملك والشعب غير مقبولة من طرف الشعب نفسه [...] لولا الملكية التي تولت حماية الأحزاب لرجمها الشعب بالحجارة"، ثم بدأ يسخر باستعراض بعض الأسماء العائلية لبعض الحزبيين مثل "الفلوس وبن بركة"، معلقا.. "المهم ليس منها واحد اعتمد اسم الباز أو النسر، فكلها دواجن...". فأصيب عبد الله إبراهيم بصدمة، وفور خروجه من فيلا ولي العهد اتصل بالمهدي بن بركة ليؤكد له أن مفهوم الحزب بخصوص الحكم لا يمكن أن يلتقي في يوم من الأيام مع مفهوم القصر.
وكشف محمد لومة نادرة غريبة لم يسبقه إليها أحد، ففي نهاية إحدى الجلسات التي جمعت الملك وقادة الكتلة الوطنية فيما بين نونبر 1971 وأبريل 1972، وكان الوقت ليلا، وضع الملك الحسن الثاني سلهامه على عبد الله إبراهيم وهو يودعه على عادته مع كبار ضيوفه كعربون رضا عنهم وعلامة على الارتياح لهم، إلا أن عبد الله إبراهيم بمجرد أن وصل إلى منزله سحب سلهام الملك من على ظهره وسلمه إلى سائق سيارة القصر الملكي، ملتمسا منه إعادته فور رجوعه إلى صاحبه، ولم يتقبل الحسن الثاني رفض هديته فامتلكه غضب شديد، إذ لم يكن متعودا على أن يرفض أحد هداياه.
كما أكد محمد لومة، على لسان عبد الغني برادة، أن عبد الله إبراهيم دأب على رفض إرسال ملفاته الطبية الشخصية والعائلية إلى التعاضدية العامة للتربية الوطنية رغم أنه يعتبر عن منخرطيها، إذ كان يفضل تحمل مصاريف علاجه وعلاج أسرته اعتمادا على إمكانياته المادية الخاصة رغم واجب الانخراط الذي ظل يقتطع من راتبه الشهري كأستاذ جامعي.
لقد عرف عن عبد الله إبراهيم رفضه بلطف وديبلوماسية كافة المساعدات الرسمية الصادرة عن أية جهة، وفي هذا المضمار يقر محمد لومة أن صدام حسين حاول جاهدا تقديم مبالغ مالية مهمة لصديقه عبد الله إبراهيم الذي ظل يرفضها باستمرار، معتبرا أن النضال بمقابل مادي من الخارج لا يمكن أن يكون نضالا سليما، هذا في وقت نال العديد من رفاق عبد الله إبراهيم والقادة المغاربة حصتهم الوفيرة من إكراميات الرئيس العراقي السابق.
رفض عبد الله إبراهيم على مدى أكثر من ثلاثين سنة تقاضي راتب التقاعد كرئيس سابق للوزراء، وقد تم كشف هذا الأمر حينما أسر محمد كريم العمراني (الوزير الأول السابق) للملحق الصحفي بديوان عبد الله إبراهيم، محمد العلمي، بأنه رفض عرض الملك الحسن الثاني القاضي باستفادته من راتب تقاعدي قدره 70 ألف درهم شهريا وذلك بأثر رجعي، إذ أبلغ الملك أنه يفضل الاكتفاء بأجره كأستاذ جامعي.
أصدرت حكومة عبد الله إبراهيم قانونا مؤرخا في فاتح يونيو 1959، جعل الوزراء في صف الملك والأمراء، يعاقب الذين ينتقدونهم بمثل العقوبات المنصوص عليها بخصوص الطعن في شخص الملك وفي (الذات الملكية)،كما أنه في عهد هذه الحكومة تم اغتيال عدد من المناضلين، وتعرضت الحرية والتعددية النقابية للتضييق (إذ تم رفض الاعتراف بالاتحاد العام للشغالين).

مقتطفات من مذكرات عبد الرحيم بوعبيد

في بداية الثمانينات غضب الملك الراحل الحسن الثاني غضبة مستطيرة على عبد الرحيم بوعبيد، بميسور، وهي منطقة نائية محسوبة على ما كان يسمى بـ "المغرب غير النافع" في عرف الاستعمار الفرنسي ومن ظلوا موالين له حتى بعد حصول المغرب على استقلاله الأعرج.
آنذاك خلال الأيام التي تلت إطلاق سراح عبد الرحيم بوعبيد يوم 3 مارس 1982 بعد الإقامة الجبرية، استقبله الراحل الحسن الثاني في لقاء خاص بالقصر الملكي بمراكش، ودار بين الرجلين حديث خاص، مما جاء فيه :"سأل الملك عبد الرحيم بوعبيد: إذن، عبد الرحيم، أنت غير حاقد علي؟".
عبد الرحيم بوعبيد : أبدا يا جلالة الملك لكنني أشعر بنوع من الأسف، وأتحسر على أنني لم أحظ بالوقت الكافي للانتهاء من كتابة مذكراتي...".
وفعلا حاول عبد الرحيم بوعبيد استكمال مذكراته بميسور، إلا أنه لم يتمكن من إتمامها وتركها على شكل مخطوط، معنون بـ "مذكرات طريق مناضل" (والتي هي بحوزة مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد الآن)، (1942-1961) نسوق منها هذه المقتطفات المرتبطة بعبد الله إبراهيم والحكومة التي ترأسها في عهد الملك الراحل محمد الخامس.
".. وكان الفريق الحكومي [يعني الكاتب حكومة عبد الله إبراهيم]، الملغوم من الداخل بوزراء متورطين مع المعارضة، من قبيل يوسف بلعباس قد استطاع البقاء، ودام بقاؤه أزيد من 15 شهرا، وهو ما يعد رقما قياسيا بالمقارنة مع الفرق السابقة له منذ 1965.
فقد نددت البرجوازية المنتسبة إلى حزب الاستقلال وثارت ثائرتها ضد الإجرءات المطبقة على مستوى الصناعة والتجارة الخارجية والعملة والقرض، كما ناهضت برجوازية أخرى، هي برجوازية الفلاحين الكبار، على غرار الاتحاد المغربي للفلاحة، الحليفة بدورها للاستقلال ولتيارات أخرى غيره، معلنة عن أهدافها التي كانت تتمثل في امتلاكها، بأي وسيلة من الوسائل، لأفضل الضيعات التي بحوزة المعمرين الأجانب.
فتم تقديم الإصلاح الزراعي، الذي تبناه المخطط الخماسي ( 1960-1965)، بالرغم من اعتداله ودقته، كما لو انه عمل يحول الفلاحة المغربية إلى نموذج سوفياتي أو "سفيتتها"[...] وكانت هذه البرجوازية، مسخرة ومستخدمة من طرف الشركات الرأسمالية الفرنسية بطريقة واضحة للعيان، فكانت صحافة الاستقلال، صحافة البرجوازية الحضرية أو القروية لأنها، أحيانا بدون تمييز تردد على طول صفحاتها نفس الحجج ونفس مواقف الرأسمالية الأجنبية، وخلاصة القول في ذلك إن البلاد متجهة نحو الكارثة والمغرب يسير في اتجاه إقرار نظام قريب من الشيوعية بهذا القدر أو ذاك، متنكرا بذلك لتقاليده الدينية والثقافية، وحزب الاستقلال [...] كان هو رأس الحربة في عملية النسف هاته.
لم يكن ولي العهد (الملك الحسن الثاني) بدوره يتردد في استعمال السلطة المرتبطة باسمه وبمكانته للعمل بشكل مباشر ضد الحكومة الشرعية التي نصبها والده نفسه، فقد صرح أزيد من مرة أنه أول معارض وكان تصرفه سياسويا بدون تحفظ.
[...] ولا أبالغ إذا ما قلت بأنني كنت هدفا لكل هذه المعارضات والعدو اللدود الذي يجب القضاء عليه.
بيد أن معالم الاستقلال الاقتصادي للمغرب كان قد تم وضعها في ماي 1960 [...] وإنشاء قطاع عمومي يلعب دور المحرك لقوة الدفع : المركب الكيماوي بأسفي ومعمل الصلب والحديد بالناظور، إنشاء وحدات صناعية من أجل تركيب وصناعة الشاحنات (اتفاقية المغرب ـ بيرلي) وتركيب الجرارات وصناعتها (اتفاق لابورليي)، إنشاء وحدة صناعة العجلات (اتفاقية جنرال طاير)، وصناعة مركب للوحدات النسيجية (منها كوفيسط بفاس)، وإنشاء محطة لتكرير النفط بالمحمدية (سامير) واتفاقية ماطيي التي كانت في طور الإعداد لتركيب وصناعة السيارات (صوماكا) وتأميم مناجم جرادة والشركة الشريفة للبترول وتأميم استيراد الشاي والسكر وبدء العمل بتعريفة جمركية جديدة، مع التوجه نحو حماية منتوجاتنا الوطنية...
فبالنسبة للطبقة العاملة ومختلف الطبقات الشعبية، كما في أعين جزء كبير من البرجوازية المتوسطة، كانت مثل هذه الأعمال الملموسة تبشر فعلا بمستقبل أفضل، مما نجم عنه في الحياة الاجتماعية اليومية نوع من الانقسام بين الذين يجعلون من أنفسهم ورثة الحماية، مقابل الأغلبية الكبيرة التي وعت بأن إرث الفترة الاستعمارية لابد من أن يوضع في خدمة مجموع الشعب المغربي، وهكذا اندلع صراع طبقي حقيقي، وقد كان حزب الاستقلال يجتهد في صحافته وتصريحاته من أجل نفي هذا "الصراع الطبقي"، مع الدفع بأن الأمر لا يعدو أن يكون شعارا مستوردا من الخارج مناهضا لمبادئ الإسلام، كما لو أن مبادئ الإسلام تمنح الحرية للأقلية من البرجوازية الكبرى لكي تستولي، بدون عمل ولا جهد على الثروات المادية للبلاد عبر نفوذها في الإدارة والحكومة ومن خلال سبل وطرق المضاربة، ولهذا بدا أن العقبة التي لابد من المضاربة عليها، هي "هذه الحكومة" التي ظلت قائمة مدة تقارب 15 شهرا".
وجاء في مذكرات عبد الرحيم بوعبيد، أنه تلقى في غضون منتصف شهر ماي 1960 مكالمة هاتفية من طرف ولي العهد (الملك الحسن الثاني) دعاه فيها إلى عشاء رأسا لرأس، ودار بينهما حديث طويل دام أزيد من ثلاث ساعات، لم يكشف عن فحواه إلا القليل، ونقتطف منه ما يلي:"
- الأمير: لقد قرر جلالة الملك وضع حد لمهام الحكومة الحالية، وهناك فريق آخر قيد التشكيل، لقد وصلنا مرحلة المشاورات النهائية وقد أمرني جلالة الملك بإخبارك رسميا.
- بوعبيد : أشكر سموك على دعوتك هاته، وعلى الإخبار الذي قدمته لي، لكن أستسمحك في التعبير عن مفاجأتي، ذلك أن جلالة الملك باعتباره رئيس الدولة، هو الذي يعود إليه أمر هذا الإخبار، بصفة رسمية، وحسب الأعراف، للفريق الحكومي كله.
- الأمير : لنقل إنه إجراء شبه رسمي، لكنه في ظرف أيام قليلة سيرسم كما تقتضيه الأعراف، لكن المهم في هذا المسعى الذي أمر به جلالة الملك، هو أن أعرض عليك تولي مهام وزارة الخارجية داخل الفريق الجديد، ولابد من أن أوضح لك بأن جلالته يلح على هذا الأمر بشكل خاص.
- بوعبيد : قبل الإجابة على العرض الذي تشرفت به، اسمح لي سموك بإبداء ملاحظة أولية، مادام الأمر يتعلق بحوار شبه رسمي، خلال تنصيب الفريق الحالي، يوم 24 دجنبر 1958، إذ قيل وقتها، في الخطاب الرسمي للتنصيب بأن الحكومة الجديدة ستتولى مهامها إلى ما بعد الانتخابات الجماعية، وإن تشكيلة جديدة ستتأسس على ضوء نتائج هذه الانتخابات الجماعية، بمعنى حكومة أكثر تمثيلية لمختلف توجهات الرأي العام، والحال أنه بالرغم من تباطؤ وزارة الداخلية، وبعد مشاورات الأحزاب السياسية حول نمط الاقتراع في يونيو 1959 أقرّ ظهير صادق عليه جلالة الملك تنظيم الانتخابات الجماعية بالاقتراع الأحادي [..] وفي دجنبر سجل الناخبون أنفسهم في اللوائح الانتخابية، ولم يبق سوى تحديد تاريخ الانتخابات، فلماذا إعفاء الحكومة قبل الانتخابات؟
- الأمير : لقد قرر الملك ذلك [...].
- بوعبيد : من هو رئيس المجلس الحكومي؟
- الأمير : ولي العهد، أنا شخصيا.
بوعبيد : لكن يا سمو الأمير، يصعب علي تصديق هذا الأمر، فأنا لا أرى وليا للعهد ومستشارا لجلالة الملك يضع نفسه على رأس الحكومة، اللهم في ظروف استثنائية حقا، ذلك لأن "الحكم" كما يقال هو "الاختيار"، وعليه، سيكون عليك أن تختار مسؤوليتك السياسية بين هذا التوجه وذاك، على المستوى الاقتصادي، الثقافي والاجتماعي وفي مجال السياسة الخارجية، فالرجل السياسي العادي ينخرط بكل مسؤوليته السياسية عندما يقدم على اختيار معين، فإذا نجح في عمله لن يكون قد قام سوى بما أملاه عليه ضميره وتحليله للوضعية، وإذا أخفق، لن يكون أمامه سوى أن يستقيل أو أن ينحى من طرف الحاكم الأعلى، جلالة الملك. هذا هو النظام وهي ذي قواعد اللعبة حتى في ديمقراطية غير كاملة كما هي ديمقراطيتنا...
مبدئيا، إن أميرا، وليا للعهد، يمثل استمرارية نظام الملكية، لا يمكن أن يتعهد بمسؤوليته السياسية، إذ لا يمكن مجازاتك أو محاسبتك، فإن عبّرت الحكومة عن عدم موافقتها على أي إجراء كان، فإنها ستعارض ولي العهد، لأن هذه الصفة ستظل، بالرغم من كل شيء هي المهيمنة والغالبة، وهنا لست بصدد شكلانية قانونية، بل أحاول أن أتصور أوضاع ووضعيات ملموسة، بكل صراحة لا أتفهم الأسباب التي تدفعك إلى تولي رئاسة الحكومة.
الأمير: لقد قدرت الأمور من جانبها السلبي والإيجابي معا، وقد تنبأت بالاعتراضات التي ستقوم بها.. لكن القرار قد اتخذ. وإذا كان جلالة الملك وأنا قد فكرنا في مشاركتك فذلك ليكون الفريق الجديد ممثلا لكل الاتجاهات، لا تظن على وجه الخصوص أنني أعارض كل الإجراءات التي اتخذتها، ففي العمق أنا أيضا اشتراكي.
ع. بوعبيد: يمكنك أن تكون اشتراكيا كإنسان أو كمواطن، لكن لا يمكنك أن تكون اشتراكيا كولي للعهد...[...]
الأمير: طيب سأقدم تقريرا لجلالة الملك عن هذا اللقاء، وعلى كل سيتم استدعاؤك للمشاورة كما تقتضي الأعراف ذلك".
[وقبل الوداع]
"الأمير: أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم، لكن باعتبارك صديقا سأقول لك (ما في الأمر): أنت لا ترى فيّ سوى ولي العهد فقط، والحال أنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك، يحذوني الطموح إلى لعب دور في حياة بلادي. أنت تعرف أن أبي لازال شابا. وأنا لن أنتظر حتى أضع طاقم أسنان لكي أخلفه.. هو ذا عمق تفكيري...
لربما ستركب القطار وهو يسير، في يوم من الأيام، فمن يدري".
ويعلق عبد الرحيم بوعبيد على فحوى هذا اللقاء في مذكراته: "هل كانت تلك هي الإرهاصات الأولى لتحول سيطرأ على الوضع، والعودة إلى تصور يؤمن بالملكية المطلقة، تستند تبريراته إلى انقسام الأحزاب السياسية وإرادة العالم القروي، وهي الإرادة المعبر عنها من طرف الأعيان الجدد، أبناء وأقارب القواد والباشوات، الخدام السابقون لإدارة الحماية؟ سيبيّن توالي الأحداث أن التوجه كان هو ذاك فعلا.
ابتداء من 26 مايو 1960، شرع محمد الخامس في المشاورات من أجل تشكيل الفريق الحكومي الجديد، وإن كان إجراءا شكليا فقط، لأن المسألة كلها سويّت قبل أيام من هذا التاريخ، بيد أنه حصل مع ذلك تغيير مقارنة مع الخطة الأصلية، إذ إن بعض الشخصيات من بين المؤهلين للوزارات، من أمثال عبد الكريم بنجلون، ألحّوا على الملك كي يتولى هو نفسه رئاسة المجلس الحكومي، على أن يكون ولي العهد نائب الرئيس فقط [...]".
ويضيف عبد الرحيم بوعبيد "[..] بدا لي جلالته (محمد الخامس) محرجا أو مكدر البال نوعا ما، حيث يكاد يكون مستسلما [..]
عند نهاية الصبيحة، تم بث الخبر رسميا، وأصبح ولي العهد نائب رئيس المجلس (الحكومي)، جامعا حوله ممثلي مختلف تيارات المعارضة.
بعد أيام قليلة، تم التفويض لولي العهد من نائب رئيس المجلس الحكومي بكل سلطات رئيسه، وعيّن أحمد رضا اكديرة المدير العام لديوانه، وبذلك، أصبح هذا الرجل، الذكي، الذي لا ماضي وطنيا له، مفتاح الفريق الجديد، وكان يستمد سلطته من ثقة الأمير – الر ئيس، فقد كان مصنفا، من لدن قادة الحركة الوطنية، لاسيما في فترة ما بين 1950 و1955 من ضمن "الشباب الجديد" الذي تعول عليه الحماية.



رؤساء الحكومة بالمغرب
بين يوليوز 1955 و مايو 1960

رئيس الحكومة البداية النهاية
محمد البكاي الهبيل (الحكومة الأولى والثانية) 7/12/1955 15/4/1958
محمد أحمد بلافريج 12/5/1958 2/12/1958
عبد الله إبراهيم 16/12/1958 20/5/1960


إعداد: إدريس ولد القابلة و محمد لومة

......................
 
عبد الله إبراهيم بين نار النبذ الفرنسي ولهيب كره ولي العهد والطابور الخامس

2

محمد لومة / أستاذ باحث
يعتبر محمد لومة صاحب كتاب "سنوات الصمود وسط الإعصار" من القلائل الذين نقبوا بدقة وتفان في مسار هذا القائد الوطني، إذ تحدث إليه كثيرا قبل وفاته، حيث أوصاه هذا الأخير بالمحافظة بأمانة على كل ما أسر له به، كما استجوب أغلب رفاقه في درب النضال والكفاح، سواء قبل الاستقلال وبعده، حيث لم يدخر أي مجهود لملاحقة أي شخص علم أن بحوزته ما يكشف عن جانب من جوانب حياة عبد الله إبراهيم اعتبارا لشساعة غنى حياة الفقيد، فكرا وموقفا وممارسة، على امتداد سبعين سنة، وتنوع مجالات اهتماماته، باعتباره عاش الكثير من التجارب الخطيرة منذ السابعة عشرة من عمره.
- قبل الحديث عن تكليف الأستاذ عبد الله إبراهيم بتشكيل حكومة جديدة بتاريخ 26 دجنبر 1958 والصعوبات التي اعترضت نشاطها وكيفية إعفائها، نود في البداية وضع القارئ في الإطار العام للإشكالية عبر الحديث عن المهام الحكومية التي اضطلع بها، فماذا عن توليه أولى المهام الحكومية بعد الاستقلال؟
+ بحكم تربية وتواضع الرجل فقد ظل دائم النفور من مسؤوليات المواجهة الكبرى كيفما كان نوعها، سواء كانت حزبية أو حكومية أو نقابية، وكان يميل أكثر إلى العمل القاعدي الصبور، طويل النفس في صمت، بعيدا عن أضواء الإعلام والشهرة.
فكثيرا ما كان يتحدث في مجالسه الخاصة عن ظروف تعيينه ككاتب للدولة مكلف بالأنباء وناطق باسم الحكومة (حكومة التسيير والمفاوضات) في 7 دجنبر 1955، مؤكدا بشدة على واقع أنه كان ضد المشاركة منذ البداية في تشكيل هذه الحكومة، حيث ظل يعتبرها ثمرة طبيعية لمفاوضات "إيكس ـ لي - بان"، تلك المفاوضات التي ناهضها شكلا ومضمونا، علما أن عبد الله إبراهيم كان قد اكتشف مبكرا من قلب زنزانته بالسجن المركزي بالقنيطرة، منذ أوائل 1954، بأن رفيقيه عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليزيدي كانا يباشران مفاوضات سرية مع الفرنسيين من داخل السجن!
وبمجرد الإفراج عنهما في شتنبر 1954 تابعا تلك المفاوضات من جديد رفقة عمر بنعبد الجليل بدون إشراك العديد من أعضاء القيادة بمن فيهم عبد الله إبراهيم، لقد استمات عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه في قيادة الحزب طيلة ليلة 6 – 7 دجنبر 1955 لإقناع عبد الله إبراهيم بقبول المشاركة في الحكومة وذلك على مدى عدة ساعات امتدت حتى اليوم الموالي.. وفي نهاية المطاف قبل عبد الله إبراهيم التجاوب مع طلب رفاقه تفاديا لانشقاق الحزب، لاسيما وأن صفوفه كانت وقتئذ ملغومة بالكثير من الخلافات.
فقد كان ينبغي، في تقديره الشخصي، فتح ورش إصلاح الحزب من الداخل قبل قبول المشاركة في أية حكومة،وهو الورش الذي تم تأجيله مرارا منذ 1952 بسبب الاحتلال الأجنبي للبلاد، فقد كانت قيادة الحزب على جانب كبير من عدم التجانس الفكري والسياسي.

- ما هي ظروف وملابسات مشاركته في حكومة البكاي الثانية؟
+ بسبب اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين الخمسة وتجاوبا مع ملتمس تكتل حزب الشورى والاستقلال وقوى سياسية أخرى، وهو التكتل الذي طالب بإجراء انتخابات نزيهة في البلاد، بسبب ذلك قدمت حكومة البكاي الأولى استقالتها بتاريخ 26 أكتوبر 1956 ليجري تشكيل حكومة جديدة برئاسة البكاي مجددا، حيث أسند لعبد الله إبراهيم منصب وزير الشغل والشؤون الاجتماعية، مع العلم أنه رغم مرور أقل من عشرة أشهر على تحمله مسؤولية وزارة الأنباء فإنه استطاع بنجاح باهر تطهير جهاز الإذاعة الوطنية من كافة التقنيين الفرنسيين الذين كانوا يرفضون الخضوع لتعليمات الوزارة، وكانوا يرفضون كذلك بث البلاغات الرسمية والتعريف بأنشطة الحكومة وانجازاتها، كما لو أن البلاد لا تزال في ظل الاحتلال.
في حين إن نشاط عبد الله إبراهيم في وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية تميز أساسا بوضع أول تشريع وطني لممارسة العمل النقابي، وهو الذي لا يزال ساريا به العمل حتى اليوم، وذلك رغم معارضة أطر الوزارة الذين كانوا فرنسيين بالكامل، وكذا معارضة الاتحاد الدولي للنقابات الحرة..
ففي كلا المنصبين ظل الرجل يعاني من معارضة فرنسية رسمية شرسة، اتخذت أشكالا متنوعة، لذلك كثيرا ما كان الملك محمد الخامس يردد لعبد الله إبراهيم في العديد من المناسبات:"إن هؤلاء القوم (الفرنسيون) لا يريدونك مطلقا داخل الحكومة بصرف النظر عن هذا المنصب أو ذاك، وهم يشتكون بمرارة بأنك تقاومهم منذ سنة 1933، ولم يفلح اعتقالك لعدة مرات خلال فترة الحماية في ترويضك وجعلك تتقبل الحقائق الجديدة، وهم لا يرون في كل ما تقوم به سوى استمرار لنضالك السابق ضد وجودهم ومصالحهم".

- ما هي ظروف تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم؟
+ قبل ذلك بعدة أشهر كانت قد تشكلت الحكومة الثالثة بعد استقالة مبارك البكاي والتي كانت برئاسة الحاج أحمد بلافريج، وذلك بتاريخ 16 ماي 1958، وقد رفض عبد الله إبراهيم المشاركة فيها، وبسبب ما وصفه بمحدودية القدرات السياسية والتنظيمية لرئيسها على
الرغم من وطنيته وطيبوبته وصدقه كما يقول.. كما قاطعها حزب الشورى والاستقلال بسبب استمرار حملة القمع والاختطافات التي طالت العديد من قادته وأطره.
وقد فشلت هذه الحكومة في إخماد فتيل الأحداث الدامية التي عاشتها منطقة الريف ابتداء من أكتوبر 1958 بقيادة الثائر محمد سلام أمزيان، واكتفى قائدها بإقفال أبواب بيته أمام كل مساعي الصلح والتوفيق سواء بالنسبة لأحداث الريف أو بالنسبة للصراع الضاري الذي اشتعل في صفوف حزب الاستقلال بكل مكوناته (المقاومة، جيش التحرير، النقابة، اتحاد الطلبة...)، وجاءت استقالة نائب رئيس الحكومة ووزير الاقتصاد الوطني عبد الرحيم بوعبيد بمثابة الضربة القاضية التي عجلت بسقوط حكومة بلافريج بعد حوالي سبعة أشهر من تشكيلها.
تجدر الإشارة إلى أن قبول عبد الله إبراهيم بمهمة تشكيل الحكومة، كما أكد مرارا، تطلب عدة مقابلات مع الملك محمد الخامس، وهنا يقول عبد الله إبراهيم :" مبدئيا أنا لم أكن أبحث عن المناصب، بل هي التي كانت تبحث عني، ذلك أن ثوابتي الوطنية تمنعني من قبول أي منصب بدون اقتناع كامل، غير أن الملك محمد الخامس خلال هذه المرة كان يدعوني بإلحاح للتعاون معه للتغلب على الأزمة التي وصلت إليها البلاد باعتبار ذلك واجبا وطنيا يعلو فوق كل شيء".

- في تقديرك من هم الخصوم الذين ناهضوا هذه الحكومة منذ يومها الأول، وكيف تصرف عبد الله إبراهيم تجاههم؟
+ كانت الدولة الفرنسية هي أشرس أولئك الخصوم.. وقد بذلت قصارى جهودها، حتى قبل تشكيل الحكومة لإقصاء عبد الله إبراهيم من أية مسؤولية حكومية.. أما حزب الاستقلال فقد عبأ كل وسائله الإعلامية والتنظيمية لمناهضة الحكومة الجديدة، لدرجة أنه لم يكتف بجريدة العلم والنشرات الداخلية للحزب، بل بادر إلى إصدار جريدة يومية باسم "الأيام" تحت إدارة السيد التسولي، وكان علال الفاسي في الغالب يكتب افتتاحياتها، وقد كانت هذه الجريدة مخصصة بالكامل للتهجم على شخص عبد الله إبراهيم وعلى حكومته، بل وعلى عدد كبير من المقاومين وقادة جيش التحرير والنقابيين المحسوبين على عبد الله إبراهيم.
لم تكتف جريدة "الأيام" باستعمال رسوم الكاريكاتور للمساس بهؤلاء مجتمعين، بل تعدت ذلك إلى اعتماد الإشاعات والأخبار غير الموثوقة، لخدمة هدفها الرئيسي والأساس: إسقاط الحكومة في أقرب الآجال، وبكل الوسائل الممكنة؛ ومن غرائب الصدف، فإن جريدة الأيام توقفت بصفة نهائية عن الصدور بمجرد إقالة الحكومة، كما لو أن مبرر إصدارها منذ اليوم الأول انحصر تحديدا في إسقاط الحكومة.
كما كان من خصوم هذه الحكومة جمهور عريض من المعمرين والمتعاونين الفرنسيين وأوساط الإقطاع المحلي الرافض لأية إصلاحات وكذا بقايا اللفيف الأجنبي داخل دواليب الدولة.
أما على الصعيد الرسمي، فقد كان هناك خصوم من نوع خاص يتوزعون من حيث مواقعهم بين صفوف الحكومة نفسها، والوسط المحيط بولي العهد وبين المتنفذين العاملين في مختلف الإدارات العمومية، فعلى سبيل المثال تحلقت حول ولي العهد مجموعة عمل مشكلة من أبرز أصدقائه الحميمين كأحمد رضا كديرة (مدير ديوانه) والوثيق الصلة بالمصالح الفرنسية والذي يُكّنَ أيضا العداء لكافة مكونات الحركة الوطنية، وأحمد العلوي (رئيس قسم الصحافة بالديوان الملكي) والكولونيل حفيظ العلوي (المرافق العسكري لولي العهد ذي الماضي المشين في خدمة الاحتلال في أكثر من منصب إداري وغيرهم)، إذ كانت مهمتهم التدخل في كل كبيرة وصغيرة من النشاط الحكومي، وكانوا يبشرون دوما بقرب سقوطها منذ اليوم الأول لتشكيلها، فأحمد العلوي كان لا يصفها على الدوام سوى بأنها حكومة "سبع أيام ديال المشماش"؟!.
ومما زاد من قوة وخطورة هذا اللوبي الموازي للحكومة الرسمية، إشرافه الكامل على شؤون الجيش والأمن والدرك والقوات المساعدة وعلى أسلاك وزارتي الداخلية والخارجية، وهذا ما يفسر حدوث العديد من الاعتقالات في صفوف قادة المقاومة وجيش التحرير بدون علم رئيس الحكومة الأستاذ عبد الله إبراهيم، كما يفسر التدخلات المسلحة العنيفة حيال أحداث منطقة الريف وتافيلالت ووالماس وكذا أحداث بني ملال وأزيلال وأمزميز.. كما يفسر منع الحزب الشيوعي المغربي وتضييق الخناق على نشاطات جيش التحرير في الجنوب عشية تعرضه لضربة (إكوفيون) الشهيرة.. كما يفسر الكثير من التدابير الشاذة والغريبة التي لا تستقيم مع شخصية عبد الله إبراهيم ومساره النضالي وأخلاقه وتربيته كما هو معروف عنه منذ بداية الثلاثينات؛ هذه التدابير التي نسبت ظلما وعدوانا لحكومته، بينما كان الرجل لا يستطيع فضح كل ذلك مراعاة لمشاعر الملك الذي كان يجتاز ظروفا صحية صعبة. كما كان يتجنب فتح مواجهة مباشرة مع ولي العهد طالما أنه مسؤول فقط أمام شخص الملك من الناحية القانونية والسياسية.
أما داخل الحكومة نفسها، فقد كان هناك وزراء من المحسوبين على الفريق الآنف الذكر، كانوا يعملون في تناغم كامل. فالقبطان محمد المدبوح، وزير البريد، كان ولي العهد هو الذي أوصى بتوزيره في حكومة عبد الله إبراهيم نظرا لعلاقتها الوثيقة آنذاك، واعتبارا للطابع الأمني والمخابراتي للمواصلات السلكية واللاسلكية، كما أوصى بتعيين صديقه الحميم إدريس السلاوي كاتبا للدولة في التجارة، وهو المدير الأسبق للأمن الوطني بالدار البيضاء والذي أشرف على عدد كبير من عمليات تصفية المقاومين على يد الدائرة السابعة للأمن بدرب البلدية.
ونفس الشيء يقال بالنسبة لأمحمد ابا حنيني (الأمين العام للحكومة)، الذي كان مكلفا كذلك بكل النفقات المالية المتعلقة برئاسة الحكومة، وهو صاحب الفتوى الشهيرة لولي العهد: "إذا كنت ترغب فعلا في ترحيل الحكومة بالسرعة القصوى، فما عليك سوى التمسك بأقدام والدك باكيا ومستجديا طالبا إقالة الحكومة، فلا تدعه حتى يستجيب لمطلبك، وذلك جريا على عادة أجدادك الأولين".
وحسب مذكرات عبد الرحيم بوعبيد المنشورة حديثا، فإن ولي العهد طبّق حرفيا هذه الفتوى حتى حصل على مبتغاه.
كما كان هناك محمد الغزاوي (مدير الأمن الوطني)، الذي وإن لم يكن وزيرا في الحكومة، إلا أنه كان يتمتع باختصاصات تفوق ما لدى عدة وزراء مجتمعين. فقد كان للرجل علاقات مباشرة بالملك وبشكل يومي. ويتذكر عبد الله إبراهيم مندهشا كيف كان الملك محمد الخامس يواجه أعضاء الحكومة بالقول: "هذا الرجل السي الغزاوي محل ثقتي المطلقة.. وأرجوكم التعاون معه بلا حدود"! فكان اعتبارا من هذا الموقع يقوم بأمور خطيرة بدون الرجوع لرئيس الحكومة، مثل اعتقال غيفارا، وزير كوبا ورفاقه في فندق "باليما" بالرباط، في غضون شهر شتنبر 1959، بينما هم ضيوف رسميون لدى رئيس الوزراء تلبية منهم لدعوة رسمية بالحضور إلى المغرب، وغير ذلك من المواقف السلبية.
تجدر الإشارة إلى أن القبطان المدبوح، وزير البريد، عضو هذا الفريق الذي كان يعمل داخل الحكومة كطابور خامس لمصلحة الفريق الوزاري الآنف الذكر، حاول عبثا إسقاط الحكومة منذ الشهور الأولى لتنصيبها حينما تقدم باستقالته احتجاجا على مضمون بيان صادر عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بمدينة أكادير، والذي رأى فيه قذفا في حق المؤسسة العسكرية المغربية .. وذلك بضغط من "الطابور الخامس" الآنف الذكر، علما بأن المنطق كان يقتضي أن يحتج كبار الضباط آنذاك من رتبة جنرال وكولونيل ضد هذا البيان إذا كان فيه أصلا ما يعيب، وليس أن يصدر الاحتجاج من طرف ضابط صغير الرتبة كالقبطان المدبوح.
لقد كان عمل عبد الله إبراهيم ضمن هذه التركيبة العجيبة قرابة سنة ونصف محفوفا بالعراقيل، ولكن الرجل تابع نشاطه بحمية وحماس معتمدا على ثقة ودعم الملك محمد الخامس، وعلى الحماس الشعبي الكبير الذي كانت قرارات حكومته تحظى به لدى مختلف الفئات الشعبية، وإذا كانت حكومة عبد الله إبراهيم مشكلة من 11 زيرا فإنه كان شخصيا يزاول إلى جانب مهام الرئاسة مهام الداخلية ومهام وزارة الخارجية والإعلام والسياحة عند غياب إدريس لمحمدي خارج البلاد، فكان لا ينام سوى أربع ساعات يوميا، مما أثر على صحته تأثيرا كبيرا جعله يتردد على المستشفيات في ألمانيا بعد إقالته وذلك لفترات طويلة.

- تحدثت عن قرارات وتدابير اتخذت خارج الإطار الحكومي الرسمي ألحقت ضررا فادحا بهيبة الدولة ومصداقية الحكومة، ما هي أبرز تلك القرارات والتدابير؟
+ إن أبرز تلك القرارات والتدابير بتقديري تجلت على الشكل التالي :
- الضغط على وزير البريد القبطان المدبوح، كما ذكرت آنفا، لتقديم استقالته من الحكومة أملا في إسقاطها بشكل كامل، إلا أن الملك محمد الخامس حرص على إفشال هذا المخطط فترك المدبوح وحده ليبقى بدون مسؤوليات حتى أعاده صاحبه ولي العهد إلى وظيفته بعد ذلك جزاءا له، ولكنه سرعان ما سيتآمر على قتل الملك نفسه، بعد ذلك بحوالي 12 سنة.
- في 31 دجنبر 1959 تم اعتقال محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي، وكان الأخير آنذاك رئيس تحرير جريدة "التحرير" والأول مديرها، وذلك بتهمة المس بشخص الملك.
- حل الحزب الشيوعي المغربي يوم 10 فبراير 1960، وذلك في فترة كان رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم في طور توثيق العلاقات مع المعسكر الشرقي سعيا وراء خدمة المصالح العليا للبلاد، فكانت فرنسا وخدامها المحليون يرون في ذلك تهديدا لمصالحهم رغم أن قواتها المسلحة المقدرة آنذاك بحوالي 64 ألف جندي، كانت لا تزال متمركزة في ثكناتها ومواقعها على طول المغرب وعرضه.
- في 14 فبراير 1960 انطلقت حملة اعتقالات واسعة في صفوف قادة المقاومة وجيش التحرير بتهمة اكتشاف ما سمي بـ "مؤامرة"، لاغتيال ولي العهد، وكان المصدر الوحيد لهذا الاتهام هو مقالات جريدة (لي فار)، لصاحبها أحمد رضا كديرة مدير ديوان ولي العهد وقتئذ، إلا أنه تم حفظ ملف النازلة لاحقا نظرا لانعدام الأدلة والشهود، كما قدم شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي استقالته من وزارة التاج احتجاجا على هذه الاعتقالات.
- الزج بالجيش في مواجهات دامية في مناطق الريف، والماس وتافيلات وبني ملال، أزيلال وأمزميز.
- الإقدام على احتجاز الوفد الرسمي الكوبي برئاسة "شي غيفارا" والذي زار المغرب بدعوة رسمية من رئيس الوزراء، عبد الله إبراهيم.
- تضييق الخناق على وحدات جيش التحرير في الجنوب عبر ما يشبه نوعا من التنسيق مع الفرنسيين والإسبان لإلحاق الضربة العسكرية القاضية بهذا الجيش، المعروفة بـ "إكوفيون".
- الإيعاز للجان التحقيق العسكرية المكلفة بإعداد محاضر لمعتقلي أحداث بني ملال ـ أزيلال وأمزيز وتاحناوت بالزج بشخص عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة باعتباره الشخص الذي أوعز لهم بهذا التمرد المسلح، وقد روجت صحافة رضا كديرة وحزب الاستقلال (ما كان يسمى بصحافة المعارضة آنذاك) لهذه "الأسطوانة" وإشاعتها على نطاق واسع ومسايرتها أيضا.
- الاتصال بالسلطات الاسبانية لمطالبتها بتأخير الانسحاب من بعض مناطق الجنوب المغربي، حيث كانت قد تعهدت لعبد الله إبراهيم بالانسحاب منها نتيجة مباحثات مكثفة، وذلك بذريعة أن الحكومة في أيامها الأخيرة، حيث من الأفضل حرمانها من هذا المكسب الهام مادام رحيلها قد أضحى مسألة أيام معدودات، وسيؤدي هذا الموقف المخزني ـ مع بالغ الأسف ـ إلى تأخير هذه الانسحابات لأكثر من عشر سنوات بعد ذلك، حيث إن البعض فضل ترتيب أوراقه على مستوى العاصمة كأولوية مطلقة على حسابات الحدود والجلاء واستكمال تحرير باقي المناطق المحتلة.

- ما هي تداعيات إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم؟
+ كما هو معلوم، رفض عبد الله إبراهيم تقديم استقالة الحكومة، كما طلب منه عبر عدة قنوات كانت تنتهي كلها إلى حلقة فريق ولي العهد آنذاك، لكنه رفض ذلك بدعوى أنه لم يكن يوجد أي سبب منطقي وجيه يدعو إلى الاستقالة لحظتئذ حسب تقديره، فالحكومة كانت تقوم بواجبها أحسن قيام وهي تشعر بأنها في حال الاستقالة ستبدو أمام الجميع بمظهر العاجز غير القادر على متابعة مهامها، والحال أن العكس هو الصحيح، وفي هذا الشأن، كثيرا ما كان الفقيه البصري يقص علينا واقعة مفادها أن الملك محمد الخامس بعث في طلبه عن طريق أحد أقربائه ليؤكد له أسفه البالغ عما حصل واستعداده لإرجاع حكومة عبد الله إبراهيم إلى الحكم لمتابعة نشاطها واستكمال البرامج والخطوات المهمة التي بدأتها، بل أكثر من ذلك أكد جلالته على قبوله فكرة وضع الدستور على يد مجلس تأسيسي وتوفير الضمانات اللازمة لإجراء الانتخابات بعد ذلك في أجواء سليمة ووفق ما كانت تطالب به قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ولكن شريطة أن تتعهد القيادة الاتحادية للملك وبصفة جماعية بالحفاظ على النظام الملكي الدستوري والابتعاد عن أية توجهات جمهورية في المستقبل، ويضيف الفقيه البصري قائلا " لقد جمعت لهذه الغاية، في منزلي بالدار البيضاء، كلا من عبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد عبد الرزاق، علما أن المهدي بن بركة كان وقتها غائبا، بالديار السويسرية، فتقررت الموافقة، على عرض الملك بدون قيد و لا شرط، في حين تحفظ كل من المحجوب بن الصديق ومحمد عبد الرزاق لأسباب غير مفهومة؟!
كما تم تكليف عبد الرحمان اليوسفي بمتابعة هذا الموضوع عن كتب مع الملك محمد الخامس سواء بالرباط أو في سويسرا، حيث كان جلالته يخضع لفحوصات طبية، يضيف الفقيه البصري، لكن لم تنفع مختلف الاحتياطات التي حرصنا على اتخاذها آنذاك لمنع خصومنا المتواجدين في المحيط الملكي من الاطلاع على هذه التحركات وفحوى ما دار في هذا الاجتماع، ذلك أن ممثلي الجهاز "البورصوي" [علاقة ببورصة الشغل] قاموا مباشرة بعد فض الاجتماع "بواجب" التبليغ لفريق ولي العهد الذين ارتبطوا به قبل ذلك بشكل سري كطابور خامس بين ظهراني الجسم الاتحادي، أما تحفظات هؤلاء أثناء الاجتماع، فكان سببها عنصر المفاجأة وعدم توفرهم على تعليمات مسبقة بهذا الخصوص، كما تعودوا دائما، غير أن مواقفهم المخزية عشية المؤامرة المزعومة (16 يوليوز 1963) أسقطت جميع أقنعة الغدر والعمالة.
أما الباقي فقد أضحى معروفا، ذلك أن الوفاة المفاجئة للملك محمد الخامس في تلك الفترة بالذات، قلبت كل الموازين وأعادت كل الحسابات، في أعقاب الرسائل التي وجهها الحسن الثاني إلى رؤساء الأحزاب السياسية والنقابات بعد فشل المحاولة الانقلابية لعاشر يوليوز 1971، طالبا المساعدة للخروج من الأزمة العامة للبلاد والتي زجت بالقوات المسلحة في الميدان السياسي، ففي أعقاب ذلك، دخل عبد الله إبراهيم ورفاقه في الكتلة الوطنية (علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، المحجوب بن الصديق)، الذين هرعوا إلى حوار مكثف مع الملك دام عدة شهور أسفر عن قبول الملك الحسن الثاني مبدأ قيام الكتلة الوطنية بتشكيل حكومة جديدة تلتزم ببرنامج عام، هو نفس برنامج الكتلة الوطنية، بحيث يكون معظم أعضائها ممثلا من طرف الكتلة على أن يترك للملك حق تعيين بعض الأشخاص على رأس بعض الوزارات السيادية.
لقد استمر الحوار مع القصر الملكي على مدى سبعة أشهر (من أكتوبر 1971 إلى أبريل 1972)، كان الملك الحسن الثاني خلالها يكلف أحيانا كلا من أوفقير وإدريس السلاوي وأحمد الدليمي بمتابعة الاتصالات بالنيابة عنه مع الطرف الآخر، لكن الطرفين سرعان ما تحولا في وقت متقدم إلى موقف المفاوض لحسابهما الخاص دون الملك، بل وعلى حساب الملك نفسه!!
لقد أكدت التحضيرات المتعلقة بمحاولة إسقاط الطائرة الملكية، بعد ذلك، في 16 غشت 1972 جانبا هاما من هذه الحقيقة المرة، وقد أشرت إلى ذلك بتفصيل في الطبعة الثالثة لكتابي المعنون بـ "مؤامرة 16 غشت 1972 ضد الحسن الثاني.
ويبدو أن الملك الحسن الثاني كان لا يستهدف من وراء سبعة أشهر من المفاوضات مع الكتلة، التي كان خلالها يلوح بمنصب رئاسة الحكومة، مرة لعبد الله إبراهيم وأخرى لعبد الرحيم بوعبيد، حيث لا يستهدف سوى ربح بعض الوقت لإعادة ترتيب أوضاعه الداخلية، لاسيما في صفوف الجيش والأمن والمخابرات بعد الهزة العنيفة التي مست كل مفاصل الدولة المغربية بعد انقلاب 10 يوليوز 1971.
هكذا تراجع الملك الحسن الثاني عن كافة تعهداته، ليكلف صهره ومدير ديوانه أحمد عصمان (الملقب بالأمير الصغير آنذاك) بإبلاغ الكتلة الوطنية وقف الحوار بشكل مفاجئ من طرف واحد (القصر) وعزمه على تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة كريم العمراني.
ولعل هذا الموقف المتشدد من طرف الملك هو ما كان الانقلابيون الجدد يبحثون عنه لمعاودة الكرة من جديد، فهذا الموقف في نظرهم، سينظر إليه من كافة الزوايا والمستويات، بمنظار عزلة النظام السياسي في المغرب وافتقاده إلى السند الشعبي اللازم، ليبقى التساؤل الكبير مطروحا بقوة، حيث يبدو بأن الإجابة عليه ستبقى في رحم الغيب، ترى لو سار الملك الحسن الثاني مع الكتلة الوطنية على مسار ما أسلفنا ذكره، هل كان الانقلابيون سيجرؤون على الإعداد لمغامرة عسكرية جديدة؟

- في تقديرك، ما هي أهم منجزات حكومة عبد الله إبراهيم؟
+ على امتداد حوالي 520 يوما من عمر هذه التجربة الطلائعية في تاريخ المغرب الحديث يمكن رصد مجموعة من المحطات:
- تسريع إيقاع جلاء كافة القوات الأجنبية عن البلاد، إذ دخل عبد الله إبراهيم في مفاوضات مباشرة قادته إلى مفاوضة الجنرال إيزنهاور بعد إقناعه بأن لا حق للحكومة الفرنسية في بيع قواعد ومنشآت للأمريكيين باعتبارها كانت سلطة احتلال.
- مباشرة مخطط واسع للإصلاح الزراعي عبر بناء صناعة للحديد والفولاذ ونزع الضيعات المستغلة من طرف الفرنسيين وإنشاء تعاونيات كبرى.
- تطهير الإذاعة الوطنية من الأجانب.
- الفصل مع الفرنك الفرنسي وإنشاء بنك مركزي مغربي وصندوق للإيداع والتدبير وبنك للاستثمارات الوطنية وصندوق للتوفير.
- تسريع المباحثات لبناء المغرب العربي الكبير باستضافة مؤتمرين في كل من طنجة والرباط ومواصلة دعم الثورة الجزائرية على كافة المستويات.
- نشر الأمن في مختلف مناطق البلاد، بإقناع حملة السلاح بالتفاوض وإلقاء السلاح.
- العمل على تعريب وتوحيد ودمقرطة التعليم.
- العمل على وضع اتفاق للتبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إيزنهاور.
- تأطير عقلاني لمندوبية المقاومة وأعضاء جيش التحرير في اتجاه تكريم المجاهدين والمقاومين الحقيقيين ومعارضة مدعي المقاومة.
- تحديد اختصاصات وزارة الداخلية ومديرية الأمن.
- وضع المخطط الخماسي للفترة الزمنية من 1960 إلى 1965.
- اتخاذ قرار شجاع بصرف كل المتعاقدين الأجانب العاملين في أجهزة الجيش والأمن والمخابرات قبل مستهل يوليوز 1960.
وإذا كانت حكومة عبد الله إبراهيم قد شكلت تجربة نموذجية خلال فجر الاستقلال، فإن خصومها العديدين حاصروها من كل جانب وأضاعوا على المغرب ما يناهز نصف قرن، دخلت فيها مرغمة مرحلة "التيه" الدستوري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي..

- أثارت بعض الجهات تشنج علاقتك بعائلة عبد الله إبراهيم بعد نشر مؤلفك المعنون بـ "سنوات الصمود وسط الإعصار"، ماذا تقول بهذا الخصوص؟
+ للأسف الشديد، كان الأمر متعلقا بمجرد سوء تفاهم مع أحد أفراد عائلة المرحوم،وكل ما في الأمر أنني قمت بصدق وأمانة بتنفيذ توصية غالية من طرف المرحوم عبد الله إبراهيم، مفادها "اتهلا في هاد العمل... وعنداك ضيعو ... والله غادي يجازيك"، حيث يبقى أن كل ما قمت بنشره هو عمل نضالي بالدرجة الأولى وليست له أية صبغة تجارية، ولعل بيانات شركة "سبريس" للتوزيع أبلغ دليل على ما أقول، إذ يمكن لأي أحد الإطلاع عليها.
ومهما يكن من أمر إن علاقتي بأسرة الفقيد جيدة وألبي كل دعواتها بحضور المناسبات التي تنظمها، كما نتبادل دوريا تهاني الأعياد والمناسبات الدينية، وآخرها كان خلال رمضان وعيد الفطر.

...........................
 
عبد الله إبراهيم.. صمود وسط الإعصار
انشقاق حزب الاستقلال والأمير مولاي الحسن يدخل على الخط

نعمان الهاشمي
تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد

سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أومن خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد.
في عام 1994، أسر الملك الراحل الحسن الثاني لأحد محاوريه بأنه يريد تناوبا على طريقة حكومة رئيس الوزراء عبد الله إبراهيم، والتقطت الإشارة على أنها موجهة إلى قيادة الاتحاد الاشتراكي، وتحديدا إلى زعيمه عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان قد أغلق الباب وانصرف احتجاجا على ما شاب الانتخابات من خروقات.
وإذا كانت عودة اليوسفي قد اقترنت بتوليه إدارة جريدة الاتحاد الاشتراكي، فإن من مكر التاريخ أن يكون الرجل هو نفسه الذي تعرض للاعتقال عندما كان رئيس تحرير صحيفة «التحرير»، إلى جانب مديرها محمد الفقيه البصري، في نهاية العام الأول لحكومة رفيق الدرب عبد الله إبراهيم.
ومع أن الحادث كان يشير إلى توزع مراكز القرار في تلك الفترة، التي يصفها البعض بأنها ضمت أكثر من حكومة واحدة في الواجهة وأخرى في الظل، وثالثة خلف الستار، فإن التاريخ يسجل للراحل عبد الله إبراهيم، وهو من تقلد أول منصب إعلامي في البلاد بعد الاستقلال، أنه كان وراء بلورة قانون الحريات العامة الذي وضعته الحكومة السابقة بزعامة أحمد بلافريج، فقد انتقلت وزارة العدل من مسؤولية الحاج عبد الكريم بنجلون إلى الحاج أحمد اباحنيني، بما يعنيه ذلك من دلالات، على اعتبار أن الحاج أحمد اباحنيني سبق له أن عمل في ديوان الوزير محمد الزغاري، الذي كان من بين الشخصيات التي شاركت في مفاوضات إبرام اتفاقية الاستقلال.
ينضاف إلى ذلك أنه في عهد حكومة عبد الله إبراهيم برزت توجهات وطنية في القطاعات الاقتصادية، بهدف فك الارتباط مع كثير من المؤسسات الفرنسية، غير أن المرحلة سيطغى عليها التحضير لانشقاق 1959 داخل حزب الاستقلال، الذي توج بالإعلان عن تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في يناير 1959، وقد شكل إسقاط حكومة أحمد بلافريج، أو في أقل تقدير دفعتها إلى الاستقالة ذروة الصراع داخل حزب الاستقلال، الذي انتهى إلى إقرار قطيعة سياسية بين فصائل الحركة الوطنية، التي كان عملها يتسم بالوحدة والتنسيق في مواجهة الاستعمار الفرنسي، لكنها انشطرت في التعاطي مع رهانات بناء الاستقلال.
سيمتد تأثير ذلك الانشقاق على مستويات عدة، إعلامية ونقابية واقتصادية وسياسية. وفيما كانت النخب السياسية تتصارع بينها للاستئثار بنفوذ يؤهلها لترجمته إلى مكاسب سياسية، على الأقل في ما يتعلق بفرض السيطرة على الجهاز التنفيذي، ومن حوله، كانت أجيال الريف تشهد انتفاضة عارمة، غير منفصلة عن تداعيات حروب فصائل جيش التحرير والزعامات السياسية ومظاهر التذمر الشعبي، مما أدى إلى إفسادها عبر استخدام القوة التي ارتبطت بظهور عسكري متشدد اسمه محمد أوفقير، سيطبع تاريخ المرحلة ببصماته في إقرار سياسة القمع لإخماد الأنفاس.
اللافت في تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم في نهاية ديسمبر 1958، أنها أعادت عبد الرحيم بوعبيد إلى نيابة رئيس الوزراء، وكذا وزير الاقتصاد الوطني والمالية بعد استقالته من حكومة أحمد بلافريج في نوفمبر من نفس العام، واستبدل وزير الداخلية مسعود الشيكر، الذي كان سيتصاهر مع أحمد الدليمي آنذاك بالوزير إدريس المحمدي الذي تولى المنصب. كما أسندت وزارة الدفاع إلى محمد عواد، بعد أن كان يقودها أحمد اليزيدي فترة لم تدم طويلا، بيد أن مفاجأة تلك الحكومة ستكون في شخص العسكري محمد المذبوح، الذي سيكون أول قادم من المؤسسة العسكرية إلى منصب وزاري مدني، وسيلقى حتفه في المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات في العاشر من يوليوز 1971، فيما لا يخفي راصدون لتلك الفترة دوره في الإطاحة بحكومة عبد الله إبراهيم، وكذا التسريبات التي نقلت عنه حول إمكان تعرض حياة الأمير مولاي الحسن، ولي العهد آنذاك، لمحاولة اغتيال. فثمة من يربط بين استقالته من وزارة البريد والتمهيد لإسقاط حكومة عبد الله إبراهيم بطريقة مخالفة للأساليب التي طبقت مع حكومات أحمد بلافريج ومبارك البكاي الثلاث، أي لجوء رئيسها إلى تقديم استقالته أو إقدام مكوناتها على القيام بنفس العمل كما في حكومة البكاي الثانية.
من أبرز المنتمين إلى التيار المحافظ داخل حزب الاستقلال، الذين سيغادرون الحكومة، ستبرز أسماء أحمد اليزيدي وزير الدفاع ومحمد الدويري وزير الأشغال العمومية، وعمر بن عبد الجليل وزير التربية الوطنية، إضافة إلى محمد بوستة وعبد الحفيظ القادري، فيما سيشغل المعطي بوعبيد منصب وزير الشغل للمرة الأولى، قبل أن يعود في نهاية سبعينيات القرن الماضي ليصبح وزيرا للعدل ثم وزيرا أول، وكذلك سيكون حال شخصيات أخرى كانت محسوبة على حزب الشورى والاستقلال وانضمت إلى الاتحاد الوطني لتعزيز الصف الذي كان يقوده المهدي بن بركة قبل الانقلاب بأكثر من 180 درجة في اتجاه دعم النظام.
بيد أنه في الوقت الذي جيء برجل حزب الاستقلال أحمد بلافريج إلى رئاسة الوزراء لتجاوز التناقضات الداخلية التي عصفت بحكومتي مبارك البكاي الأولى والثانية، سيكون الأمر مختلفا بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، إذ سيتولى الملك محمد الخامس، شخصيا، رئاسة الحكومة، وسيعهد بنيابتها إلى ولي عهده الأمير مولاي الحسن، في إشارة إلى ضجر القصر من صراعات السياسيين، أو إفادته من أنواع التطاحنات الداخلية التي ستجعله يعزز موقعه في ترسيخ السلطة في وقت مبكر.
وفيما كانت الشخصيات السياسية البارزة في تلك الحكومة تلقي باللوم على ولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي كانت له آراء مغايرة وتصورات مختلفة لا تلتقي مع منهجية الحكومة، كان الحسن الثاني يخوض معركة وجود. وقد روي، مرة، أنه بعث بصديقه أحمد رضا اكديرة إلى بعض الشخصيات السياسية لإبلاغ رسالة مفادها أن الملك محمد الخامس لن يرجح كفة أولئك الشخصيات على حساب نجله الأمير، في إشارة إلى الفترة التي سبقت الإعلان عن نهاية مسؤوليات حكومة عبد الله إبراهيم.
ومن جهته، حكى عبد الرحيم بوعبيد، الذي كانت له حوارات مع ولي العهد بهذا الشأن، أنه أبدى استغرابه حيال رسالة أبلغه الأمير فحواها، وكانت تطال تشكيل حكومة جديدة، خصوصا أن ولي العهد كان يعتزم أن يتولى شخصيا رئاسة الحكومة القادمة، مما اعتبره بوعبيد خيارا لا يتم اللجوء إليه عادة إلا في حالات استثنائية تكون فيها البلاد مهددة، إلا أن ذلك ما سيحدث فعلا حين تولى الملك محمد الخامس، شخصيا، رئاسة الحكومة في أواخر ماي 1960، وعين ولي العهد في منصب نائب رئيس الحكومة.
تميزت حكومة الملك محمد الخامس باستلام إدريس المحمدي حقيبة الخارجية، بعد أن كان المفاوض الرئيسي لفصائل جبهة التحرير، يوم تقرر إدماجها في جيش نظامي. وعاد رئيس الحكومة الأسبق مبارك البكاي ليشغل منصب وزير للداخلية، كما تولى مولاي أحمد العلوي، للمرة الأولى، منصب وزير الأنباء والسياحة، وعاد محمد بوستة ليصبح وزيرا للوظيفة العمومية، غير أن ما طبع هذه الحكومة، التي لم تتجاوز عاما واحدا، هو إسناد الإشراف على قطاع الدفاع إلى الأمير مولاي الحسن، بينما شارك الدكتور عبد الكريم الخطيب في الحكومة ذاتها كوزير للشغل والشؤون الاجتماعية، بضعة أشهر بعد الإعلان عن التأسيس الرسمي لحزب الحركة الشعبية، مما يؤشر على تحول في مسار تشكيل الحكومات المتعاقبة، سيجد امتداده في فريق حكومة لاحق يرأسه الملك الحسن الثاني، بعد وفاة والده الراحل محمد الخامس، علما أن عبد الخالق الطريس عين في غضون ذلك وزيرا للعدل، وتحولت وزارتا الدفاع والفلاحة ضمن الصلاحيات المباشرة لرئيس الحكومة الذي أصبح بإمكانه تفويضهما.
لن يصبح هذا التفويض نافذ المفعول إلا عند تشكيل الحكومة الثانية للملك الحسن الثاني في صيف1961، حين أسندت وزارتا الداخلية والفلاحة إلى أحمد رضا اكديره، وتولى محمد الدويري وزارة الاقتصاد والمالية، فيما أصبح المحجوبي أحرضان وزيرا للدفاع، أما الخارجية فقد انتقلت اختصاصاتها إلى رئاسة الحكومة، غير أنها المرة الأولى التي يشارك فيها زعيم حزب الاستقلال مسؤولية وزير دولة مكلف بالشؤون الإسلامية إلى جانب وزيري دولة آخرين، هما خالد ولد عمير، الذي كلف بالشؤون الموريتانية، ومحمد رشيد مولين من حزب الأحرار المستقلين اللذين أشرفا على وزارة التربية الوطنية، وأعلن، في غضون ذلك، للمرة الأولى، عن تشكيل وزارة دولة تعنى بالشؤون الإفريقية، أسندت إلى الدكتور عبد الكريم الخطيب.
ثمة من يذهب إلى أن الراحل عبد الله إبراهيم، الذي أنهى حياته زاهدا في أمور السياسة، لم يكن متحمسا لتولي مسؤوليات رئاسة الوزراء، غير أن الفترة كانت تتطلب شخصية من معيار ذلك الرجل الزاهد، الذي وضع أسس تجربة فريدة في التناوب السياسي، قبل أن يصبح المصطلح واسع التداول. وبالرغم من كل شيء، فقد حرص على أن يكون فريقه الحكومي منسجما بالقدر الذي يبيحه الموقف، لولا أن إرهاصات الانشقاق الذي طال حزب الاستقلال ألقت بظلالها القاتمة على آفاق العمل الحكومي.
سيحتاج الأمر إلى أزيد من عشر سنوات يعود بعدها الوفاق إلى رفاق الدرب الاستقلالي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد تأسيس الكتلة الوطنية، التي جمعته إلى جانب علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد والمحجوب بن الصديق، والتي اتخذت من التنسيق في مواجهة دستور 1970 الإطار السياسي لحشد صفوفها، خصوصا بعد انضمام حزب الاستقلال إلى حزب المعارضة، منذ الإعلان عن حالة الاستثناء في عام 1965.
غير أن رغبته في استمرار ذلك التنسيق لم تكن على قدر متمنيات الرفاق، فبعد بضع سنوات سيتم تأسيس الاتحاد الاشتراكي بزعامة عبد الرحيم بوعبيد، وسيتوارى عبد الله إبراهيم إلى الخلف، محتفظا بيافطة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وعلاقات مودة مع الاتحاد المغربي للشغل بقيادة الراحل المحجوب بن الصديق. وحين دعي إلى تأسيس الطبعة الثانية للكتلة الوطنية تحت اسم الكتلة الديمقراطية، لم يمانع في ركوب القطار، إلا أنه اختار النزول من فوق الشجرة، يقينا منه بعدم جدوى المشاركة السياسية التي لم تكن معروضة على طبق من ذهب.
غير أن انزواءه لم يحل دون استمرار عطاءاته الفكرية والسياسية، فقد اختار أن يظل رجل فكر وأبحاث أغنت المكتبة السياسية، خصوصا في القضايا التي تطال تاريخ المغرب والفكر السياسي والقانون والدراسات الأكاديمية، التي لم تترك بابا من قوالب الفكر إلا طرقته بقوة، ذلك أن ميزة الطالب التقليدي الذي حصل على شهادة العالمية من كلية ابن يوسف في مراكش، ستتعزز أكثر عبر الانفتاح على الثقافة المعاصرة حين ذهب إلى باريس للدراسة في جامعة «السوربون»، ولم يكن حظه من الاعتقال والقمع، على عهد الاستعمار الفرنسي، مختلفا عن رفاقه في الحركة الوطنية. فقد كان أكثر إعجابا بالحرب الشعبية التي خاضها الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي في حرب الريف، وكتب عنها الشيء الكثير، لكنه خاض الحروب الشعبية عبر الفكر، ونأى بنفسه بعيدا ومتواضعا وقنوعا بنصيبه في هذه الدنيا، وأشعل شموعا وخاض معارك يمكن تصنيفها بأنها ركزت على المفهوم الذي كان يروق له كثيرا: الطريق قبل الرفيق.

http://dar.bibalex.org/webpages/mainpage.jsf?BibID=435763

سنوات الصمود وسط الاعصار : ابرز المحطات النضالية فى حياة الاستاذ ...‎
dar.bibalex.org/webpages/mainpage.jsf?BibID=435763
سنوات الصمود وسط الاعصار : ابرز المحطات النضالية فى حياة الاستاذ عبد الله ابراهيم.
Publisher : دن]. Author : لومة، محمد. Subject : المغرب-تاريخ-العصر الحديث; إبراهيم، ...


في رثاء الزمن المغربي الكبريائي الجميل :زمن الكفاح والصمود وسط الرصاص والإعصار.






إيه محمد بن عبد الكريم،قائد جبهة التحرير الوطنية والعربية والأممية:
لن أقول للمغاربة ،إلا ما قلت للأخ الرئيس عبد الله إبراهيم بالقاهرة سنة 1960( فلطالما هناك شبر واحد من الأرض المغربية محتل ، لا داعي لتنصيب ملك جديد).
في ثنايا العجاجْ
والتحامِ السيوفْ
بينما الجوُّ داجْ
والمنايا تطوف
يتهادى نسيمْ
فيه أزكى سلامْ
نحو «عبد الكريمْ»
الأميرِ الهمام

كلُّنا يُعجبُ
بفتى المغربِ
كلُّنا يُطَرَبُ
لانتصار الأبي
أين جيشُ العِدا
إن دعا للجهادْ؟
أصبحوا أعبُدا
بالسيوف الحِداد

طالما استعبدوا
وأذلّوا الرقابْ
أيها الأيِّدُ
جاء يومُ الحساب
فليذوقوا الزُّعافْ

بالظُّبا والأَسَلْ
ولْنُعَلِّ الهتافْ
للأمير البطل


ريفُنا غابُنا نحن فيه الأسودْ ريفُنا نحميه
****

ريفُنا غابُنا نحن فيه الأسودْ ريفُنا نحميه
****
ريفُنا غابُنا نحن فيه الأسودْ ريفُنا نحميه

حيث ظل عبد الكريم على رفضه وامتناعه ممانعة مطلقة وشديدة لاتفاقية إيكس ليبان المخزية والمهينة لعظمة المغرب واستقلاله وكرامته وحريته.
وفي مطلع سنة 1960 توصل عبد الله إبراهيم من الأمير عبدالكريم الخطابي بمذكرة سياسية ندرج بعضا منها نظرا لأهميتها وضرورة اضطلاع الجيل الجديد عليها:
أولا/السياسة الخارجية
1)لما كان المغرب ما يزال محتلا بالقوات الفرنسية والاسبانية والامريكية،ولما كانت كل مجهودات المسؤولين الدبلوماسية لإقناع حكومات هذه القوات بضرورة سحبها سلميا قد باءت بالفشل التام وعادت على الشعبب بأسوإ النتائج في حريته وكرامته وسيادته ومختلف أ وضاعه الاقتصادية والاجتماعية.2)ولما كانت الجزائر ما زالت تناضل بالطريق الصحيح ألا و هو المقاومة العسكرية لتحقيق الحرية والكرامة والسيادة، ولما كان هذا القطر جزءا من الأمتين العربية والاسلامية علاوة على أن تحقيق حريته وسيادته أمرأساسي للمغرب خاصة بحكم الجيرة المباشرة.........
ثانيا،السياسة الداخلية:
1)ولما كانت حكومة المغرب المختلفة لم تخط حتى الان خطوة جدية في سبيل تمتع الشعب بالمعنى الحقيقي للاستقلال في شتى مرافق حياته الاقتصادية والاجتماعية........
عبد الكريم الخطابي القاهرة 14.07.1379 موافق 13.010.1960
فما رأيك أنت يا ابن كيران الذي مثلك كمثل الضفدعة التي تريد ،تكون في مكانة عملاق في السمو والاستقلالية والتحدي والصمود مثل الأخ الرئيس عبدالله
فما رأيك أنت يا ابن كيران الذي مثلك كمثل الضفدعة التي تريد ،تكون في مكانة عملاق في السمو والاستقلالية والتحدي والصمود مثل الأخ الرئيس عبد الله إبراهيم وشموخه وتساميه إلى درجة أن محمد بن يوسف سلطان مراكش: امولاي إبراهيم.
فتعال يا ابن كيران وتعلم وتتلمذ على أستاذك في الوطنية ومعنى الرئاسة والكياسة والنظافة والطهارة والمسؤولية والاستقلالية والشموخ والاعتزاز والثقة بالنفس والحفاظ على الأمانة الوطنية.
وهنا أتقدم لك بألمعية وأنوارية هذا الرجل المغربي المراكشي وشجاعته وجرأته ووقوفه بحزم وعزم الرجال ،في وجه أعتى طاغية عرفه تاريخ المغرب المعاصر،ذالك أنه بمجرد إبلاغه بخبر اعتقال ومحاصرة الوفد الكوبي الرسمي ،بقيادة المناضل الأممي تشي غيفارا من قبل قوات القمع المدججة بالسلاح تحت رئاسة المدير العام محمد الغزاوي أحد مرتزقة وعملاء ولي العهد الحسن بن محمد ،ولما ثار وغضب الأخ الرئيس عبد الله إبراهيم واستنكر هذا التصرف اللامسؤول والفوضوي ،أجاب الغزاوي ،أن أمر حصار الوفد جاء من (سيده الأمير الحسن.لكن عبد الله إبراهيم وبكامل الشجاعة والبسالة أمر بإطلاق سراح الوفد الكوبي فورا ودون إبطاء أو تلكؤ،وهكذا كانت كلمة ولي العهد ومجرميه هي السفلى ،وكلمة الأخ الرئيس عبد الله إبراهيم هي العليا.
واستقبل المناضل الثوري الأممي أحسن استقبال في موكب رسمي رغم أنف عملاء الاستعمار وخونة الوطن من تركة كبيرهم الذي علمهم الخيانة والمروق الوطني الباشا لكلاوي..
وعمل الرئيس عبد الله إبراهيم على عقد لقاء مهم لتشي غيفارا مع قادة الثورة الجزائرية بمراكش.وأعلى التحديات التي واجه بها الذين حاصروا واعتقلوا غيفارا من جلادي الحسن أن قدم المناضل ألأممي تشي غيفارا للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي،حيث بعد حوارهما الطويل والحميمي،صرح تشي بأنه وجد نفسه أمام قائد ثوري وعظيم وفذ لمجموع حركات التحرر الوطني في العالم.
وقال الأخ الرئيس عبد الله إبراهيم "إننا نستطيع أن نسجل باعتزاز أن بلادنا كانت المسرح الأول لأول حرب عصابات في العالم الافريقي والأسيوي ضد الاستعمار الحديث، وكما نستطيع أن نفتخر أيضا بأن لشعورنا الوطني جذورا ثورية عميقة في هذه الحرب التحريرية هفسها التي أضرم نارها في المغرب البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي..
إن تشي غيفارا ابن روحي للمغرب،لأن بطولته من بطولة عبد الكريم الخطابي."سنوات الصمود والاعصار.محمد لومة
إن الرئيس الأخ عبد الله إبراهيم سيظل خالدا في أم كتاب التاريخ المغربي ومضرب الأمثال في الشهامة والتسامي عن تعاليم المخصيين من عملاء ومرتزقة الاستعمار والامبريالية والصهيونية والرجعية من ال سعود وال نهيان..بينما لما عينك سيدك وولي أمرك الملك محمد السادس كاد يطير لك "الفرخ" من الفرحة والسرور،فكان وقوفك إلى جانبه وتصريحاتك بعد الخروج من لقائه كطائر بلله القطر وكلك ضعف وخوف وصغار وحقارة وتبعية عمياء،تقف وأنت مهين لا تكاد تبين،تعتز بكونك مجرد عبد أنعم عليه مولاه وولي نعمته فجعله من المقربين المتزلفين الساجدين تحت العرش لا يعصون له أمرا ولا يخالفون،تسبح بحمده وتبصبص قائلا :فأنا يا مولاي أول العابدين الذاكرين الشاكرين ،فبئس المولى وبئس العبد.
لاحظوا بإنصاف وموضوعية وتجرد ما ذا كان جواب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية برئاسة عيد الله إبراهيم على رسالة الملك- الخصم- الحسن الثاني في 16 غشت 1972.
"تقييمنا للوضع ينطلق من تحديد جذور الأزمة المتولدة عن اختيارات أساسية وفاسدة" واعتبر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية "في هذا السبيل نعتبر أن الاجماع الوطني ،كدعامة من دعائم العلاج، لا يجب أن يكون على مستوى المهام الكبرى الرامية لاقتلاع جذور الأزمة المغربية الراهنة،يجب أن يكون له أولا محتوى مضبوط وواضح،إلا إذا كان الجهاز الحكومي تجمهرا مفتعلا لشخصيات مغربية لا تجمع بينها أية وحدة في البرامج ولا في نوع الارتباطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولا في المفاهيم، وذلك من شأنه أن يجعل هذا الجهاز قاصرا جدا عن تحقيق أي هدف من الأهداف الكبرى التي على تحقيقها يتوقف مع ذلك ، إخراج المغرب ،وبالسرعة المطلوبة،من المأزق الحالي.
-لجميع هذه الاعتبارات والمقتضيات يرى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أن الأزمة المعقدة والمتطورة الآن بشكل حاد ، وسريع في المغرب، تتطلب أولا وقبل كل شيء جهازا حكوميا مسؤولا وقادرا على الشروع في تطبيق سياسة تغيير جذري للهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد. وسيكون من نتائج المرحلة الأولى لهذه السياسة، خلق جو جديد في الحياة الوطنية،يساعد على تحقيق الشروط الوطنية الموضوعية والنفسية،الكفيلة ببعث الثقة من جديد في نفوس الجماهير المغربية وتأهيلها-إذ ذاك فقط- للقيام بمهاهها الانتخابية على أساس صحيح وإيجابي..على أن تسير سياسة التغيير الجذري للهياكل الوطنية الحالية خطوات إلى الأمام،فتأخذ بالتالي طريقا لا رجعة فيه، ويفهم الشعب أنه تحرر حقا من رواسب الماضي وأساليبه، ولن تستطيع أية حكومة في نظر حزبنا بهذا الدور إلا إذا كانت هي وحدها المسؤولة عن برنامجها،والقادرة على تنفيذه،تساندها الجماهير المغربية،بثقتها وانخراطها الواعي ،ومشاركتها الفعالة" عبد الله إبراهيم رئيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
إذا كان عبد الله إبراهيم في عصر عظيم قد ركب التحدي ولم يعتمد على التملق والدعم الملكي والأمريكي والرجعية السعودية مثلما تقزمت أنت يا ابن كيران، الذي جئت في الزمن الخائب النحاسي الرصاصي في وسط الاستخبارات والمخابرات والبوليس والدرك وإثقال كاهل الشعب بالضرائب واشتعال الأسعار وبؤس العيش ونكد الحياة والاكتئاب والكبت،في الوقت الذي أنتم حزب تنمية ثروات الملك وعائلته وصحبه،وقهر الثوار والأحرار والتنكيل بهم واختطافهم وإذلال المغاربة وإهانتهم حتى عمت الآلام والاضطهادات في جميع طبقات الشعب.
ما هو برنامجكم يا السي بنكيران؟وما هي هويتكم؟إنه لحيتكم وتسبيحاتكم وتهليلاتكم.
قال أحد شعراء فرنسا الكبار:
وماذا يرتجي الأحرار من زمن.............أودت بأكرم صحبهم محنه ؟
في القصر يستطيع الأحمق النبيل أنى شاء
أن يدلي برأيه الأخرق غير متردد ولا خائف.
فيفضل شويعرا هزيلا على شاعر كبير. وهذا ما يحصل في دولة قمعستان،يا ابن كيران.
ويقول شاعر فرنسا العظيم راسين.
إنك لتجهل نشوة السلطان المطلق
وسحر صوت الأوغاد من ذوي الملق
عما قليل سيحدثونك بأن أقدس القوانين
إنما تسود الشعب الحقير لتعنو للحاكمين
فليس للملك من رادع سوى إرادته
وإن عليه أن يضحي بكل شيء في سبيل جلالته
وإن الشعب محكوم بالدموع والإجهاد
وإن عليك أن تقوده بعصا من حديد لينقاد.
أصحيح يا حبيبتي المقدسة سعيدة،أن المغرب يستحق أن يتحكم فيه ملكية لا بوصلة لها ولا أفق ولا فجر ولا أمل ولا إيمان ولا قضية ولا حب ولا كرامة ولا رغيف نظيف شريف عفيف لطيف،وذراعها الممتدة من المسجد إلى النادي إلى الكلية،هذه الأصوليات والسلفيات والظلاميات ،بكل سخائفهم ومضاحكهم ومهازلهم وتطرفهم وتخشبهم وتخنثهم وتبذلهم وقسوتهم وجلافة وجفاء طباعهم،فمتى يا سعيدة يعود وينور عنقود الحرية والعقل والفلسفة والمنطق؟
فأين لنا من ذاك الزمن الجميل حيث جاء في توصيات مؤتمر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ،المنعقد آنذاك في أغادير،والتي نصت على ما يلي:
" صادق المؤتمر على ملتمس خاص بالجيش يطالب بتطهيره من الخونة، وضرورة خضوعه للسلطات المدنية، وتجنيده للتشييد والبناء،بدلا من الحفلات والسهرات، ويطالب من جهة أخرى بالتحقيق في الاسباب الأساسية لثورة الريف،ومعاقبة المسؤولين عنها"
ودائما واعتمادا على ما أورده الأخ محمد لوما في كتابه "سنوات الصمود في وسط الإعصار جاء فيه
"(لقد ثارت ثائرة الاستعماريين وحلفائهم من الذين أعياهم الانتظار،انتظار سقوط حكومة عبد الله إبراهيم الوطنية التقدمية....لماذا؟لأنها مساهم في حصنهم الحصين الأمين، إذ أصدرت حكومة الرئيس عبد الله إبراهيم أمرها إلى إدارة الامن لتستغني عن جميع الموظفين الفرنسيين ابتداء من يوليوز القادم...فجهاز الأمن الذي طالما تلاعب به أعداء الجماهير لمعاكسة سياسة الحكومة،للانتقام من المواطنين والتنكيل بهم ،ولاستفزاز الطبقة العاملة وإرهابها...وإذا تمغربت إدارة الأمن ودخلت في إطارها الوطني الشعبي،فمعنى ذلك أن الاستعمار والعملاء فقدوا أداة من الأدوات الرئيسية للحكم في تطور البلاد"
هكذا صدر بتاريخ21ماي 1960 ظهير بإنهاء مهام الحكومة التي سبق تشكلها يوم 24.دجنبر 1985
فماذا يا ترى أنت فاعل يا ابن كيران ،والشعب يريد أعمالا ملموسة لا كلمات مدسوسة وزيارات لهذا الحزب وذاك الضريح ،فعمر الشهيد،ومحاربتكم للنظام الشيوعي في أفغانستان بالرجال والأموال السعودية والقرار الملكي للحسن الثاني العدو الأول للشيوعية وقيادة عبد الكريم الخطيب،لن تمحوها المجاملات ولا التسبيحات،بل النقد الذاتي الواضح والمبدئي ،ومحاكمة المجرمين المرتزقة.
"، الشهداء لا يرثون ولا يورثون"
أقول هذا لأدعوكم أن تتحملوا مسؤولية الحكومة بعيدا عن جر الدين إلى أرض السياسة،فقد شوهتم حتى وجه الله.فماذا بعد الله أنتم فاعلون،وقد علمتم أن الحقوق لا تسقط من السماء.

................
 
محمد الغزاوي.. أول مدير أمن يجمع بين الثروة والسلطة
كيف استطاع أوفقير أن ينزع الأمن من أنياب الأحزاب؟



نعمان الهاشمي
لم يعرف سكان حي «باب فتوح» بمدينة فاس العتيقة رجلا أشهر من محمد الغزاوي،. إذ منذ استقلال المغرب كانت الحافلات الوحيدة، تقريبا، التي تنقل المسافرين إلى تاونات وغفساي وعين عيشة، ويمتطيها القرويون للنزوح إلى فاس، هي تلك التي تنعت بـ «كيران الغزاوي». فقد اهتم

رجل الأعمال المغربي محمد الغزاوي، منذ ذلك الوقت، بإقامة أسطول نقل عرف باسمه، وكانت رخص النقل تكاد تكون حكرا على عائلات وأسماء دون غيرها.
بعض تلك الأسر ارتبطت بحركة المقاومة، وكانت تدعمها بالمال، وبعضها الآخر أقام تحالفات وصلات مع الاستعمار الفرنسي، غير أن الغزاوي، الذي يتصاهر مع عائلة بنهيمة، سيكون واحدا من الرجال الذين حافظوا على علاقات وطيدة مع فصائل الحركة الوطنية، وتحديدا حزب الاستقلال، الذي يعتبر واحدا من أبرز قيادييه في تلك الفترة.
بينما كانت تلك الحافلات تقطع المسافات التي يفصلها عن بعضها البعض نهر سبو، قبل أن يعجب الملك فهد بن عبد العزيز بجمال طبيعة المنطقة، ويقيم بها قصرا فخما، كان الغزاوي يقطع مسافات أطول على طريق استتباب الأمن في البلاد، فقد صادف تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني فترة مخاض عسير، تخللتها اضطرابات وصراعات حزبية استخدمت فيها كل وسائل البطش بالخصوم الحزبيين، الذين تناحروا سرا وعلنا، من أجل الاستفراد بالسلطة والوجود النافذ.
بتزامن مع اعتراف فرنسا باستقلال المغرب، وبدء بسط نفوذ الدولة على القطاعات التي كانت تديرها فرنسا خلال فترة الحماية، بما فيها الأمن والجيش والقضاء والإدارة، سيبادر المغرب في الرابع عشر من ماي 1956 إلى تأسيس القوات المسلحة الملكية، التي ضمت الضباط المتخرجين من المدارس الفرنسية وأعدادا من الأشخاص الذين عملوا إلى جانب الحلفاء، إضافة إلى الأفواج الأولى للمتطوعين المغاربة، الذين اختاروا الجندية.
بيد أن المهمة الأصعب، التي سيتولاها محمد الغزاوي بصفته مديرا عاما للأمن الوطني، الذي تأسس في السادس عشر من نفس الشهر، ستكمن في الإكراهات القوية التي رافقت دمج أعضاء من المقاومة وجيش التحرير في قطاع الأمن النظامي، وساعده في ذلك أن الوزير الاستقلالي القوي إدريس المحمدي، الذي عين وزيرا للداخلية في الحكومة الثانية لرئيس الوزراء مبارك البكاي الهبيل كان يدعمه في هذا الاتجاه، ذلك أن الحزب الاستقلالي، الذي كان يضم وقتذاك شخصيات متنفذة أمثال المهدي بن بركة وعلال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وأحمد بلافريج وعمر بن عبد الجليل وعبد الله إبراهيم وغيرهم، لم يكن ينظر بارتياح إلى وجود القائد الحسن اليوسي وزيرا للداخلية في الحكومة الأولى، بينما ارتدى مرور مسعود الشيكر، الذي كان قد تصاهر مع أحمد الدليمي، طابعا انتقاليا عادت بعده أم الوزارات، كما سيطلق عليها لاحقا، إلى الوزير المحمدي.
ستتأكد هذه المخاوف لاحقا، على خلفية تورط القائد اليوسفي في تمرد عامل تافيلالت عدي وبيهي، وسيأتي الرد حاسما من خلال إقالته من مسؤولياته الاعتبارية كمستشار للعرش، وسيتزامن مع اعتقال كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان، في وقت كانت فيه حكومة الحاج أحمد بلافريج بصدد طرق الباب المسدود. ومن المفارقات أن أحرضان والخطيب كانا من داعمي محمد الغزاوي في إدارة الأمن، وكانا ينبهانه إلى ضرورة الفصل بين الانتماء الحزبي وتكريس الأمن، في ظرفية تجاذبها المزيد من صراعات القوة والنفوذ.
لكن أكثر ما سيعاب على الفترة أن جهات سياسية أصبح لها ميليشياتها، وأحيانا محاكمها للاقتصاص من منافسيها خارج القانون. فالسلاح كان متداولا والقناعات باحتكار النفوذ كانت قوية، ووجدت المجال خصبا لتصريفها عبر أعمال العنف والتصفيات الجسدية. لكن تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كان يفترض أن تؤرخ بدقة لمعطيات هذه المرحلة، مرت على ذلك مرور الكرام، أو أنها، في أفضل تقدير، لم تجد ما يكفي من الدلائل لإثباتها بنفس الحدة التي مورست بها، كما تدل على ذلك وقائع دار بريشة سيئة الذكر.
عندما كان القرويون البسطاء يتزاحمون لحجز مقاعد على متن حافلات نقل الغزاوي في مدينة فاس، كان الرجل، الذي عرف بثرائه، يمارس هوايته المفضلة في اقتناء السيارات الفارهة في تلك المرحلة. وقد استطاع عن طريق تجارة السيارات كسب مودة الكثيرين، بل إن إقامته في الرباط كانت لا تخلو من وجود نماذج لسيارات فارهة تسيل لعاب هواة ركوب السيارات النادرة.
وفيما كانت أعداد أثرياء المغرب في خمسينيات القرن الماضي تحسب على رؤوس الأصابع، كان محمد الغزاوي قد صنع لنفسه اسما ضمن قوائمها التي تذكر في المنتديات السياسية. غير أنه خلال عمله مديرا عاما للأمن، كان يغدق على العاملين، الذين كانت أعدادهم غير كبيرة، بل ثمة من ذهب إلى أنه تعمد بأن يؤدي بعض الرواتب من ماله الخاص بدل خزينة الدولة، خصوصا في السنوات الأولى للاستقلال، التي كان المغرب قد بدأ فيها تنظيم هياكله الإدارية والمالية. وثمة وزراء أو مدراء قلائل لم يكونوا يقبلون صرف رواتبهم من خزانة الدولة، قبل أن يأتي زمن آخر يردد فيه بعض كبار رجال الأعمال أن مصالحهم التجارية تضررت جراء الانصراف إلى العمل الحكومي. غير أن الغزاوي، الذي أقام قصرا فخما في أهم أحياء الرباط، غير بعيد عن إقامات عادية لرجال القصر، سيخطئ التقدير يوما، فقد فضل تنظيم عرس باذخ، في وقت اشتدت فيه الأزمة، ما حذا بالأصابع أن تشير إليه بسهام غير تلك التي كان يتلقاها بصدر رحب.
على عهد محمد الغزاوي في الإدارة العامة للأمن الوطني، لم تكن الأجهزة التابعة لها قد غدت مثار تساؤلات، فقد كان «الكاب واحد»، الذي أرعب المعارضة في وقت لاحق، مجرد قسم تابع للإدارة بنفس المواصفات التي كان يشتغل بها في عهد الحماية الفرنسية، وقد اختار محمد الغزاوي رجل قانون محلفا لتولي مهمة رئاسته، لم يكن سوى النائب البرلماني محمد الجعيدي، الذي كان يغرق في الملفات الإدارية، دون الانشغال بالقضايا السياسية.
كان الغزاوي حين يطلب مشورة رجالات السياسة من حزب الاستقلال أو من خارجه يدعوهم إلى الاجتماع في إقامته الفاخرة، التي استضافت لقاءات تقرر فيها مصير كثير من الرجال والأحداث، فقد كان يبدو منفتحا على فصائل المقاومة، لكنه في الوقت ذاته لم يستطع كبح جماح الصراعات الحزبية، التي وصلت حد التناحر والاقتتال، وتشكيل الميليشيات الخارجة عن القانون.
منذ ذلك الوقت بدأت معالم معتقلات سرية في الظهور، غير أنه لم يكن يشار إليها بنفس الحدة التي ارتدتها المواجهات مع المعارضة. وقتذاك، كانت الحكومة تعمد إلى إخماد التوترات والاضطرابات والقلاقل المدنية بلغة السلاح، كما حدث في الريف والأطلس المتوسط وغيرهما من الأماكن التي خلدت لتجاوزات خارج القانون.
استمر حضور المتعاونين الفرنسيين في إدارة الأمن لفترة أطول من اللازم، وفي الوقت ذاته تناسلت أحداث دفعت شخصيات عسكرية إلى انتقاد وقوع إدارة الأمن تحت هيئة حزب الاستقلال، لكن البديل الذي تقرر على إثر تعيين محمد أوفقير مديرا للأمن بعد ترقية درجته العسكرية، وإصرار هذا الأخير على تعيين عسكري آخر مديرا عاما للإدارة بالنيابة في شخص أحمد الدليمي، سيطلق يد أوفقير في الجهاز، الذي ظل يحلم بالسيطرة عليه. فقد كان يردد، وقتذاك، أن من يملك المعلومات وحده بإمكانه أن يتخذ القرار المناسب.
لهذا السبب وغيره سيعمد أوفقير إلى الاهتمام أكثر بجانب الاستعلامات، وسيضع يده على جهاز «الكاب واحد» ليصبح في وضع أكثر استقلالية عن الإدارة العامة للأمن، مع أنه بقي تابعا لنفوذه، وكان يجلب المنتمين إليه من إدارة الأمن بالدرجة الأولى. فقد كان ينظر إلى تطورات الأحداث مع بداية ستينيات القرن الماضي على أنها لا تسير في صالح فرض هيمنته، في ظل الدعم الذي كان يحظى به من السلطة. واستطاع في ظرف وجيز أن يحول إدارة الأمن إلى درع ضاربة. كان يصور ذلك أنه أفضل طريقة لتعزيز وضع النظام، فيما كانت أحلامه تسبح بعيدا قبل أن تنكسر على حافة آخر محاولة انقلابية فاشلة في صيف 1972.
في العاشر من يوليوز 1965 صدر مرسوم ملكي يقضي بإعفاء محمد الغزاوي من منصبه كوزير للصناعة العصرية والمناجم والسياحة والصناعة التقليدية، وجرى في الوقت ذاته تعيين ثلاثة وزراء ليشغلوا المهمة التي كانت منوطة به، وهم: الحسن عبابو في السياحة، ويحيى بن سليمان صاحب كتاب «نحن المغاربة» في الصناعة العصرية والمناجم، وعبد الحميد الزموري وزيرا للتجارة والصناعة التقليدية.
هذا التوزيع في حد ذاته يؤشر على الأهمية التي كان يرتديها القطاع، الذي كان يشرف عليه، إن على صعيد تجميعه تحت اختصاصات وزير واحد، أو على مستوى جعله رهن اختصاصات ثلاثة وزراء، من بينهم يحيى بن سليمان، الذي كان ينتمي بدوره إلى حزب الاستقلال، وشغل مناصب ديبلوماسية قبل عودته إلى الواجهة الحزبية في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
لكن اللافت أن فترة ممارسة الغزاوي مسؤولياته الوزارية لم تتجاوز غير سنة وشهر واحد، في إشارة إلى تداعيات حتمت إبعاده عن الحكومة التي كان يترأسها الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، وأسندت فيها مهمة وزير دولة إلى محمد الزغاري، فيما تولى أحمد العسكي وزارة الأشغال العمومية والمواصلات، وأحمد الطيبي بنهيمة صهر محمد الغزاوي وزارة الخارجية. فقد شكل ذلك ضربة لنفوذ الرجل، الذي ارتبط اسمه بالسلطة والثروة، قبل ظهور رجالات آخرين ساروا على نهجه، مع اختلاف في الأسلوب والانتماء.
من عالم الأمن والاستعلامات سينتقل محمد الغزاوي إلى إدارة المكتب الشريف للفوسفاط، وسيأخذ معه بعض مساعديه. فقد أهلته مشاريعه التجارية الناجحة في تلك المرحلة لتدبير قطاع حيوي، وإذ يتذكر المغاربة، الذين عاينوا ذلك الزمن، كيف أن أحد زعماء الأحزاب السياسية قال كلمته الشهيرة، التي تفيد بأن كل مواطن مغربي سيحصل على مبلغ عشرة دراهم يوميا من عائدات الفوسفاط، سواء اشتغل أم لم يشتغل، كانت تلك الكلمات قد صدرت في الوقت الذي كان فيه محمد الغزاوي يدير شؤون المكتب، وقد استخدمت تلك الإيحاءات في صراعات انتخابية، إلا أن مسار العاملين في ذلك المكتب سيكون موضع اهتمام، فقد أصبحوا في غالبيتهم وزراء أو وزراء أولين أو متنفذين في قطاع المال والأعمال. فقد انتقل علي بنجلون إلى مناصب حكومية، وكذلك كان مآل محمد كريم العمراني، ثم محمد فتاح وعبد اللطيف الكراوي، ثم انقلبت المعادلة في اتجاه معاكس من الوزارة إلى المكتب الشريف للفوسفاط أو بعض القطاعات شبه العمومية، لكن ذلك لا يعدو أن يكون استنساخا لتجارب سابقة عاشتها البلاد في السنوات الأولى للاستقلال.
بيد أن محمد الغزاوي سيتوارى بعيدا، فقد ظهرت تجارات أخرى من غير عالم السيارات والنقل العمومي، لكن إقامته لازالت شاهدة على ما كان يحفها من أسرار، بدليل أنها الوحيدة التي تسيجها أسوار في مثل جدارات الثكنات العسكرية، مع أن الرجل كان مدنيا.

.........................
 
علاقة الزعيم الثوري "تشي غيفارا" بالمغرب لا تتجلى فقط في صور معلقة على جدران الأحزاب اليسارية وعلى أقمصة الرفاق، فأشهر ثوري في القرن العشرين سبق أن جمعة لقاء تاريخي بملهمة الأمير عبد الكريم الخطابي، بسفارة المغرب في القاهرة، كما قام بزيارة رسمية للمغرب في أواخر الخمسينيات بدعوة من عبد الله إبراهيم. أواخر سنة 1958 أرخت لانتصار الـ"الغيرييا"، الثورة الأمية الكوبية الشهيرة التي قادها الأرجنتيني "إرنيستو تسي غيفارا"، رفقة العسكري الكوبي "فيدل كاسترو". ولأن "غيفارا" ورفاقه ارتجوا من ثورتهم أن تكون أممية تشمل مختلف دول العالم ضد " الرجعية الإمبريالية"، فقد انطلق هذا الزعيم التاريخي، بعد نجاح الثورة مباشرة، في رحلات مكثفة إلى عدة دول رافضة لسطوة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. رحلات "غيفارا" ستقوده إلى القاهرة في يناير 1959 حيث سيلتقي بعبد الكريم الخطابي، زعيم ثورة الريف، وعبد الله إبراهيم، وعبد الخالق الطريس، سفير المغرب بمصر.
خلال هذه الفترة، كان عبد الله إبراهيم يقود حكومة شكلت في 24 دجنبر 1958، وعرفت سيطرة الجناح اليساري المنشق عن حزب الاستقلال. هذا الأمر هيأ الحكومة للانفتاح على المعسكر الاشتراكي، وتعزيز دور المغرب ضمن دول العالم، سواء سياسيا أو اقتصاديا، مقابل قطعها مع "المحافظين والرجعيين الممثلين في الاستقلاليين والإداريين"، حسب تعبير محمد لومة في تصريحه لـ"أوال". في هذا السياق، جاءت زيارة "تشي غيفارا" للسفارة المغربية بالقاهرة في يناير 1959. "كان غيفارا قبل ذلك قد راقب بإعجاب كبير، من الطائرة التي أقلته من كوبا نحو القاهرة، منطقة الريف في شمال المغرب معتبرا إياها منطقة نموذجية لحرب "الغورا" (حرب العصابات)"، يورد محمد لومة في كتابه "سنوات الصمود وسط الإعصار "نقلا عن عبد الله إبراهيم. "غيفارا" نقل شهادته هذه مباشرة إلى عبد الكريم الخطابي خلال حفل عشاء أقيم بسفارة المغرب بالقاهرة، فبعد أن قدم عبد الله إبراهيم الخطابي إلى "غيفارا" جرى بين الطرفين حديث طويل دام عدة ساعات، "ذكر لي عبد الله إ"براهيم أن الرجلين كانا يسمعان لبعضهما بإنصات، ويتحدثان باللغة الإسبانية، وخلال النقاش عبر غيفارا عن إعجابه بالخطابي وبحرب الريف وتجربة الزعيم الريفي في حرب العصابات"، يقول لومة في حديثة لـ"أوال". "إننا نستطيع أن نسجل باعتزاز أن بلادنا كانت المسرح الأول لأول حرب عصابات في العالم (...) إن تشي غيفارا ابن روحي للمغرب، لأن بطولته من بطولة الخطابي"، يضيف لومة في شهادته. وانتهز عبد الله إبراهيم الفرصة، خلال هذا اللقاء، ليوجه الدعوة، رسيما هذه المرة، لـ"غيفارا" . وحل بالمغرب أواخر شهر غشت من سنة 1959.

زيارة "تشي غيفارا" الرسمية للمغرب كانت مثيرة للجدل، كما أشعلت نيران حرب متقدمة بين حكومة عبد الله إبراهيم والاستقلاليين، بزعامة علال الفاسي، ومولاي الحسن، ولي العهد انذاك. "بناء على دعوتي الرسمية ليغفارا بزيارة المغرب (...)، فوجئت في أحد الأيام بأحد نشاطء الحزب وهو يبلغني، وأنا في رئاسة الحكومة، بأن غيفارا موجود في أحد فنادق الرباط قرب محطة القطارات، تحت حراسة أمنية مشددة، بتعليمات من محمد الغزاوي، المدير العام للأمن الوطني، ولدى اتصالي بهذا الأخير مستفسرا عن أسباب هذا الاحتجاز، أجابني بأنه ينفذ بذلك تعليمات ولي العهد يتحدث عبد الله إبراهيم في مذكراته. "يبدو أن الكوبيين نزلوا فجأة بالمطار، وهو ما فاجأ الأمن، خصوصا أنهم كانوا يلبسون لباسا كاكي اللون"، يشير لومة لـ"أوال". فضلا عن الطابع المفاجئ للزيارة، كانت علاقة ولي العهد بعبد الله إبراهيم متوترة.

لم يكن الأمن والجيش تابعين للحكومة المستقلة، وهو ما يبرر التصرف الذي قام به مدير الأمن آنذاك، بإيعاز من الأمير مولاي الحسن. هذا الأمر أثار امتعاض عبد الله إبراهيم الذي خاطب مدير الأمن، محمد الغزاوي، قائلا، " قلت له بأن تصرفه لا يمكن قبوله، ذلك أن زيارة غيفارا للمغرب جاءت بدعوة رسمية مني، وبالتالي، فإن اعتقاله أو الترحيب به مسألة تتعلق برئيس الوزراء دون سواه". في هذه اللحظة سيدخل حزب الاستقلال على الخط، وفق ما ذكره محمد لومة، إذ نشرت جريدة "الأيام"، التابعة لحزب الاستقلال انذاك، وعبر مقالات افتتاحيات وقعها علال الفاسي نفسه، أنه "كان من الواجب على الرئيس، على الأقل، أن يذكر الوفود التي قام بدعوتها لزيارة المغرب، وأن يخبر بذلك جميع الدوائر المسؤولة". في هذه الأثناء كان "تشي غيفارا"، رفقة أعضاء الوفد الكوبي، يقيمون بفندق "باليما" وسط العاصمة الرباط. خصصت للوفد الكوبي إقامة خاصة بالفندق الشهير، تحت توصية واهتمام خاصين من الأمير مولاي عبد الله، قضى"إرنيستو تشي غيفارا"يومين داخل الفندق قبل أن يقدم عبد الله إبراهيم بنفسه لإخراجه من الفندق." لم أغادر الفندق حتى أنجزت التدابير الخاصة بالإفراج عن غيفارا ورفاقه الأربعة من كبار موظفي الدولة الكوبية الوليدة،وكانوا يبدون بقاماتهم الفارغة ولحاهم الكثة ولباسهم الكاكي الخالي من الرتب العسكرية...كانوا يبدون بأجسام قوية حديثة العهد بحرب العصابات"، يشير إبراهيم في مذكراته. خصصت للوفد الكوبي، كما يقول محمد لومة، سيارة الرئاسة التي قادتهم إلى فيلا بحي السوسي. وفي هذا الصدد يروي عبد الله إبراهيم، "حرصت على أن يوجهوا في موكب رسمي مخفوف بالدراجات النارية نحو إحدى الإقامات الرسمية للدولة في حي السوسي في الرباط".

بعد يوم راحة، استقبل الوفد الكوبي بغرض إجراء مباحثات رسمية. أول اجتماع انعقد يوم الاثنين 31 غشت 1959، في حدود الرابعة زوالا، بمقر كتابة الدولة في التجارة والصناعة الحديثة والملاحة التجارية. هذا الاجتماع، وفق ما أشارت إليها جريدة "التحرير" خلال متابعتها له، تميز بتقديم اقتراحات توقيع اتفاقيات بخصوص المبادلات التجارية بين المغرب وكوبا، من خلال مبادلة السكر الخام الكوبي، الذي يستهلكه المغاربة بكثرة، بالفوسفاط المغربي والأجهزة الصناعية المنتجة في المغرب. الاجتماعات استمرت حتى اليوم الموالي، في الفاتح من شتنبر، بين الوفد الكوبي الذي يتزعمه "غيفارا"، ورجال الدولة والاقتصاد المغاربة، بزعامة إدريس السلاوي، وزير الصناعة في حكومة عبد الله إبراهيم. اللقاء الرسمي الثاني عبد الله إبراهيم و"إرنيستو تشي غيفارا"، كان في البيضاء هذه المرة، داخل مكتب عبد الله إبراهيم المؤقت بمقر عمالة الدار البيضاء. جرى هذا اللقاء في سياق اخر اكتسى صبغة سياسية ، إذ اندرج في إطار استضافة المغرب لدورة مجلس جامعة الدول العربية. كانت لهذا اللقاء دلالته البالغة، والتي تتجلى في كون "غيفارا" عمل على توطيد علاقة ثورته ببلدان عدم الانحياز العربية، خاصة المغرب ومصر والجزائر. كما أن عبد الله إبراهيم ساهم في ربط جسور هذا التنسيق الأممي بين "غيفارا" والدول العربية، في انتظار ثورات مستقبلية أخرى بمجموع هذه الدول. رحلة زعيم الكوبي إلى المغرب تبدو شاقة لحدود الان. عبد الله إبراهيم استشعر أن زيارة ضيفه الخاص للمغرب كانت مضنية. لهذا السبب قام بترتيب زيارة إلى مراكش، قصد الاستجمام لمحو اثار الاحتجاز الموسف ، قمت بنقل الوفد على مدينة مراكش، حيث خيرتهم ما بين الإقامة بأحد الفنادق الكبرى، أو في أحد إقامات الدولية في حي المواسين الشعبي، فاختاروا الأخيرة يبقوا في مقربة من الشارع المراكشي"، يقول عبد الله إبراهيم في مذكراته التي كتبها محمد لومة. حضر حفل العشاء الذي أقيم بمراكش، على شرف الثوريين الكوبيين، رجال دولة وسياسة وعدة زوار. فرشت الزرابي واستقدم جوق موسيقى أندلسية لإطراب "غيفارا" الذي بدا سعيدا بهذا الاستقبال. دامت مدة مقام "غيفارا" وأعضاء الوفد الكوبي 18 يوما بالتحديد بمراكش، وبهذا الحي الشعبي الذي عج بالزوار خلال هذه الفترة.

إذا كان عبد الله إبراهيم، الذي سيكون من مؤسسي "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" سنة 1959، لم يلتقط إشارة " تشي غيفارا" بإيقاد جذوة ثورة جديدة تبدأ من الريف. فإن الزعيم السياسي ورفيقه في الحزب، المهدي بن بركة، كان قد قرأ أفكار الزعيم الكوبي وانخرط معه في نشر وتقوية جبهة الأممية الإشتراكية عبر العالم. ففي 23 نونبر 1963 صدر في حق الزعيم السياسي المغربي حكم بالإعدام بتهمة محاولة اغتال الملك الحسن الثاني، عقب هذا الحكم نفي بن بركة، وهو ما أتاح له فرصة ليصبح رسولا للثورة الإشتراكية، كما يلقبونه. رحلة بن بركة بدأت من الجزائر العاصمة، هناك التقى عدة شخصيات سياسية شهيرة، من بينها الزعيم الأمريكي "مالكوم إكس" وقائد الثورة التحررية الغينية "اميلكار كابرال"، غير ان اللقاء التاريخي هو الذي جمعه بالزعيم الكبير" إرنيستو تشي غيفارا". هذا اللقاء كان فاتحة انخراط بن بركة في مشروع الأممية الإشتراكية، إذ زار عدة عواصم لدول عالم ، بينها العاصمة الكوبية "هافانا"، كما حصل على دعم الثوار الكوبيين ومباركة اشتراكي العالم من أجل تنظيم مؤتمر "القارات الثلاث" الذي كان مزمعا عقده في يناير 1966 بالعاصمة "هافانا". بيد أن بن بركة سيختطف ويقتل في باريس في 29 أكتوبر 1965 في ظروف مازال الغموض يلف جانبا كبيرا منها وإن تم الكشف عن المتورطين الرئيسيين في العملية. سنتين بعدها، وفي شهر أكتوبر أيضا، سيرحل رفيقه "شتي غيفارا" بدوره عن هذا العالم، الثاني عثر على جثته، أما الأول فما زال مصير جثته مجهولا.

رشيد م.

..............
 
اسرار حزب الاستقلال…..من الاستقلال الــــى الاستغلال



الصحفي الأقوى على الساحة المغربية رشيد نيني يكشف لنا عبر هذه الحلقات في عموده المتميز شوف تشوف ماهية حزب الإستقلال من اين أتى بنفوده و هل تم فعلا تحقيق الاستقلال من خلال الرواية التي اخبرونا عنها في المناهج الدراسية والتعليمية ام ان هنالك امورا اخرى حصلت بين اسطر معاهدة ايكس ليبان يريدون طمسها الى الابد.


في الوقت الذي كان فيه وفد من أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، برئاسة الوزير الأول عباس الفاسي، يترحم على قبر علال الفاسي في مقبرة الشهداء، كانت عائلة المختطف عبد السلام الطود تتسلم رفات هذا الأخير من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وتدفنها وسط حضور جماهيري كبير بمقبرة مدينة القصر الكبير. وفي الوقت الذي خلد فيه حزب الاستقلال هذه الأيام الذكرى الـ36 لرحيل علال الفاسي، خلدت عائلة الشوري عبد السلام الطود الذكرى الـ54 لاختطافه واغتياله من طرف ميليشيات حزب الاستقلال.
كانت تهمة عبد السلم الطود، مثل كثيرين طاردهم حزب الاستقلال واعتقلهم وعذبهم حتى الموت، هي معارضته العلنية لاتفاقية «إكس ليبان» التي أفضت إلى الاستقلال المشروط للمغرب، ومعارضته لحزب الاستقلال الذي كان يدافع عن هذه الاتفاقية التي تفاوض بشأنها مع الفرنسيين في مدينة «إكس ليبان»، والتي ظلت بنودها سرية إلى اليوم. ربما ليست صدفة أن يسلم المجلس الاستشاري رفات مختطف يحمل حزب الاستقلال دمه في ثيابه إلى اليوم، مع مطالب هنا وهناك تنادي برحيل عباس الفاسي عن الحكومة، في تزامن مع قرب تقديمه لحصيلته الحكومية، أو «حصلته» على الأرجح، أمام البرلمان.
كما ليست صدفة أن يتزامن إخراج رفات ظلت مختفية طيلة 54 سنة مع احتفال حزب الاستقلال، المتهم الرئيس في قضية اختطاف وقتل صاحب الجثة، بالذكرى السنوية الـ36 لوفاة زعيمه علال الفاسي الذي لم يمت في الجبهة مقاوما للمستعمر، ولم يمت بسبب المرض فوق سريره، وإنما مات بعد وجبة عشاء دسمة في ضيافة دكتاتور رومانيا «*-تم الحذف. كلمة غير محترمة لا يسمح بها في هذا المنتدى-*ولاي تشاوسيسكو» الذي جاء من يقتاده ذات صباح إلى حديقة قصره لقتله رميا بالرصاص رفقة زوجته.
وبعيدا عن كل هذه المصادفات، تطرح رفات المختطف عبد السلام الطود، العائد أخيرا إلى أهله ومدينته، سؤالا عميقا حول التاريخ الدموي لحزب الاستقلال. وهو التاريخ الذي غطى عليه بإحكام التناول الإعلامي المتكرر حد التخمة لمآسي سنوات الرصاص على عهد الراحل الحسن الثاني. مثل هذه المراحل تستحق، فعلا، دراسة تاريخية علمية متجردة من طرف طلبة كلية الآداب بالرباط الذين ستفتح أمامهم إدارة الكلية، بشراكة مع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، «ماستر» حول «التاريخ الراهن» للمغرب. ولعل الفترة الأهم في كل هذا التاريخ الراهن للمغرب هي الفترة التي سبقت مفاوضات «إكس ليبان» والفترة التي تلتها، خصوصا تلك الممتدة ما بين 1956 و1959، تاريخ حل جيش التحرير واعتقال الفقيه البصري الناطق الرسمي باسم المقاومة، وتصفية الزعماء حدو أقشيش وإبراهيم الوازاني وعباس المساعدي على يد الاستقلالي محمد الغزاوي، الذي أرسله الفرنسيون من مفاوضات «إكس ليبان» ليجلس فوق كرسي الإدارة العامة للأمن الوطني بمهمة واحدة ووحيدة هي تصفية العناصر الأساسية في جيش التحرير.
ولعل أول سؤال يجب أن يجيب عنه الباحث في «التاريخ الراهن» للمغرب هو لماذا جاءت مفاوضات «إكس ليبان»؟ كثيرون يعتقدون أن المقاومة الشرسة للمغاربة كانت وحدها كافية لإجبار الفرنسيين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. والحال أن عوامل أخرى ساعدت على حصول هذه المفاوضات، منها تكبد الجيش الفرنسي في الهند الصينية هزائم ثقيلة جعلته يفكر في سحب جيوشه من مستعمراته.
بينما يبقى السبب الأهم في ذهابهم نحو المفاوضات هو رغبتهم في تقويض مخطط مكتب المغرب العربي بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي الذي فر من قبضة الفرنسيين عندما رست السفينة التي كان معتقلا على متنها في «بور سعيد»، واستقر في القاهرة يحرر «ميثاق 47» الذي ينص البند الثاني فيه على ضرورة مواصلة الكفاح حتى تحرير المغرب العربي الكبير.
وهذا الميثاق وقعه آنذاك علال الفاسي من المغرب والحبيب بورقيبة من تونس والشاذلي المكي من الجزائر. فكان ضروريا أن تجد فرنسا طريقة لفك ارتباط «مكتب المغرب العربي»، فاقترح رئيس الحكومة الاشتراكي «بيير مونديس فرانس» الاستقلال الذاتي على تونس، فقبلت. واقترح على المغرب مفاوضات «إكس ليبان» فقبل. وهكذا، انفردت فرنسا بالجزائر التي تعتبرها الأولى امتدادا طبيعيا لها.


والاتفاق الذي وقع عليه وفد حزب الاستقلال المفاوض كان يقضي بضمان استقلال المغرب داخل الاستعمار، أو ما كان الفرنسيون يسمونه آنذاك «الاستقلال داخل التبعية» Indépendance dans l’interdépendance. وهكذا، فالصراع بين حزب الاستقلال والمنشقين عنه كان يدور حول نقطة أساسية هي مفاوضات «إكس ليبان» التي منحت المغرب استقلالا مشروطا بتبعية اقتصادية شبه كاملة لفرنسا. فكان ضروريا لكي يستطيع حزب الاستقلال الوفاء بتعهداته التي وقع عليها مع الفرنسيين أن يشيد معتقلاته السرية التي سيختطف فيها معارضيه لتعذيبهم وتصفيتهم فيما بعد. وهذه المعتقلات السرية التي عرفها المغرب قبل معتقل تمارة السري بسنوات طويلة، لديها أسماء كان يعلم بها علال الفاسي، وأبرزها معتقل «جنان دار بريشة» بتطوان ومعتقل «غفساي» ودار المقري بالرباط. وداخل هذه المعتقلات تمت تصفية المئات من معارضي حزب الاستقلال من طرف ميليشيات تابعة للحزب بقيادة المدير العام للأمن الوطني محمد الغزاوي، وإلى اليوم لازالت رفات هؤلاء المختطفين مجهولة، وأبرزهم الأخوان الحداوي اللذان كانا ينتميان إلى منظمة «الهلال الأسود».وبالموازاة مع مطاردة حزب الاستقلال لمعارضي اتفاقية «إكس ليبان»، قامت الجرائد الناطقة بلسان الحزب آنذاك بشتم وسب الفقيه البصري والمهدي بنبركة وكل الوزراء الاتحاديين المشاركين في حكومة عبد الله إبراهيم، والذين حاولوا التنصل من البنود الاستعمارية لاتفاقية «إكس ليبان» عبر وزارة الاقتصاد التي كان يقودها عبد الرحيم بوعبيد، والتي بدأ المغرب عبرها أولى خطواته للخروج من منطقة الفرنك الفرنسي، وذلك بتأسيس مؤسسات اقتصادية وطنية كبنك المغرب وصندوق الإيداع والتدبير والبنك المغربي للتجارة الخارجية ومكتب الاستيراد والتصدير، وغيرها من مؤسسات السيادة.
فقد شعر المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، وهما معا من الموقعين على اتفاقية «إكس ليبان»، بحجم الخطأ الذي ارتكباه بسبب هذا التوقيع، فحاولا تدارك مباركتهما لهذا الاستقلال المشروط بالتبعية الاقتصادية لفرنسا، بتأسيس اللبنات الأولى للمؤسسات التي ستضمن للمغرب استقلاله الاقتصادي الكامل. وطبعا، لم يبق حزب الاستقلال، الوصي الشرعي على اتفاقية «إكس ليبان» مكتوف الأيدي أمام ما كانت تقوم به حكومة عبد الله إبراهيم، فأسمعوا هذا الأخير «خل ودنيه» في جرائدهم، ورسموا فيها المهدي بنبركة على شكل «ميخي» ومصاص دماء. وعندما لم ينفع الرسم والشتم، انبرى الزعيم علال الفاسي نفسه وأنشد قصيدة في هجاء المهدي بنبركة عنوانها «في هجاء كلب»، نشرتها له جريدة «العلم». حرص حزب الاستقلال على التطبيق الحرفي لاتفاقية «إكس ليبان»، بالنقطة والفاصلة، ظهر جليا خلال أحداث الريف سنة 1958 و1959، حيث كان للحزب دور كبير في سحق آلة الجيش للنخبة الريفية، خصوصا رجال التعليم الريفيين الذين كانت قد أرسلتهم الحكومة الخليفية، تحت قيادة مولاي الحسن بلمهدي ممثل محمد الخامس في المنطقة الشمالية الخاضعة للاستعمار الإسباني، إلى الشرق لتلقي العلم بإيحاء من عبد الخالق الطريس والمكي الناصري، زعيم «حزب الوحدة»، بعد أن كان السفر إلى الشرق لتلقي العلم حكرا على «أهل فاس».ولعل كثيرين يجهلون أن أحداث الريف الدامية -والتي كان «بطلها» منتوجا خالصا للجيش الفرنسي اسمه الجنرال أفقير اشترط «إيسير هاريل»، مؤسس الموساد، تنصيبه مكان محمد الغزاوي الذي انتهى دوره- كان السبب في اندلاعها هو إصرار حزب الاستقلال على تنصيب مسؤولين عموميين من أصول فاسية على علاقة وطيدة بحزب الاستقلال، مما جعل «روافة» يثورون في وجه هذا الاجتياح الاستقلالي لمنطقتهم. فكان أول شيء بدأ به «المخزن» هو اختطاف رجال التعليم الريفيين الذين درسوا في الشرق واعتقالهم لأشهر قبل إطلاق سراح بعضهم واشتراط سكوتهم إلى الأبد.
إذا كان النظام السياسي خائفا، وهو يمحق انتفاضة الريف، من ظهور تمرد شعبي في هذه المنطقة ينتهي بالمطالبة باستقلال ذاتي، فإن مخاوف حزب الاستقلال الوصي على اتفاق «إكس لبيان» لم تكن سوى انعكاس لمخاوف فرنسا من ظهور منافس إسباني في الريف يقاسمها استعمارها الاقتصادي للمغرب.
فحزب الاستقلال مستعد للقتل من أجل المحافظة على الحلف المقدس الذي يجمعه بفرنسا.

وليدات فرانسيس
بعد حل جيش التحرير ومطاردة زعمائه من طرف ميليشيات حزب الاستقلال واغتيال الناشطين في المنظمات والأحزاب المعارضة لاتفاقية «إكس ليبان» وبنودها السرية التي سلمت بموجبها فرنسا المغرب استقلاله المشروط بالبقاء رهن التبعية الاقتصادية واللغوية والثقافية لها، تسلم حزب الاستقلال مقاليد أول وزارة تعليم تحمل حقيبتها محمد الفاسي.
فقد فهم الحزب، منذ البدء، أنه للاستمرار في احترام التقسيم الاستعماري للمغرب إلى مغرب نافع ومغرب غير نافع، يجب تقسيم التعليم بدوره إلى تعليم نافع وتعليم غير نافع، تعليم مجدٍ وعلمي ينتج النخبة التي ستتحكم في الأغلبية التي ستتلقى تعليما متواضعا لا يحترم متطلبات سوق الشغل.
وهكذا، ففي سنة 1957 سيعلن وزير التعليم الاستقلالي محمد الفاسي عن قراره تعريب التعليم الإعدادي انسجاما مع روح حزب الاستقلال الذي يدافع عن الهوية الدينية للمغاربة. وعندما حلت سنة 1962، قرر المجلس الأعلى للتعليم الوطني، بضغط من حزب الاستقلال دائما، تعريب التعليم العمومي بجميع مراحله.
وبينما كان زعماء حزب الاستقلال يجربون تعريب التعليم في أبناء الشعب، كانت مدارس البعثات الفرنسية تستقبل أبناءهم بالأحضان. وعندما تسلم الاستقلالي عز الدين العراقي حقيبة التعليم في أكتوبر 1977، كانت حظوظ خروج نخبة متعلمة ومثقفة من مدارس التعليم العمومي شبه منعدمة. ولكي تصبح هذه الحظوظ منعدمة بشكل كامل، قرر الوزير الاستقلالي تعريب التعليم إلى حدود الباكلوريا. بعد تسع سنوات قضاها عز الدين العراقي في وزارة التعليم وست سنوات قضاها كوزير أول على رأس الحكومة، كان لديه الوقت الكافي لكي يضحي بجيل كامل من أبناء المغاربة وجدوا أنفسهم ضحايا نظام تعليمي عمومي لا منطق يحكمه سوى منطق الإقصاء والتجهيل.
وطبعا، خلال هذا الوقت كان أبناء الزعماء الاستقلاليين وأبناء العائلات يتلقون تعليما خاضعا لبرامج وزارة التعليم الفرنسية في مدارس البعثة. وإذا عدتم إلى الموقع الإلكتروني لمدارس هذه البعثة ستعثرون على التواريخ التي نال فيها أبناء عز الدين العراقي الباكلوريا في «ليسي ديكارت»، كما ستعثرون على تواريخ حصول نزار بركة وغلاب والدويري وبقية أبناء زعماء حزب الاستقلال على شهادة الباكلوريا.
والاتفاق الذي تم بين مفاوضي حزب الاستقلال والفرنسيين في «إكس ليبان» كان يقتضي أن تخرج فرنسا من المغرب، شرط أن يستمر حزب الاستقلال في ضمان تبعية المغرب اقتصاديا ولغويا لفرنسا، وإلا ما حاجة حزب الاستقلال إلى جريدة يومية ناطقة باللغة الفرنسية اسمها «لوبينيون»، هو الحزب المدافع عن اللغة العربية وحامي حماها.
وطبعا، لضمان مصالح فرنسا الاقتصادية في المغرب، أو ما يسمى بـ«الوجود الفرنسي» في المغرب، كان ضروريا خلق نخبة مفرنسة تتلقى تعليما متطورا وعصريا في مدارس البعثة الفرنسية، وبعدها في المعاهد الفرنسية المرموقة، كمدرسة «الطرق والقناطر» و«المناجم» وHEC والتي تخرج منها أغلب أبناء الزعماء الاستقلاليين وأصبحوا وزراء ورؤساء مؤسسات عمومية.
ببساطة شديدة، فقد قام حزب الاستقلال طيلة السنوات التي تلت مفاوضات «إكس ليبان» بالتدبير المفوض للاستعمار الفرنسي. هكذا، نجحت فرنسا في استعمار المغرب عن بعد وبتكلفة أقل. والفضل كله يرجع إلى حزب الاستقلال الذي فهم الدرس جيدا وأعد أبناء زعمائه وأبناء العائلات المحترمة لكي يكونوا سفراء فرنسا في المغرب، يتحدثون لغتها ويدافعون عن ثقافتها ووجودها لعشرات السنين المقبلة.
ويكفي أن يراجع الواحد منا اليوم أسماء الشركات التي تتعاقد معها المؤسسات التي تسيرها الحكومة الاستقلالية لكي يفهم أن الأغلبية الساحقة من هذه الشركات فرنسية، تستهلك منتجات فرنسية وتوظف مكاتب دراسات فرنسية بخبراء فرنسيين.
فرنسا اليوم، وحسب إحصائيات 2009، تعتبر المستثمر الأجنبي الأول في المغرب. والاسم الذي تطلقه فرنسا على هذا الاستثمار هو «الوجود الاقتصادي الفرنسي»، وهي أرضية تجمع كل الشركات الفرنسية المتواجدة بالمغرب والتي لديها ارتباط مباشر بالشركات الأم الموجودة بفرنسا. وبالإضافة إلى فروع هذه الشركات، هناك المكاتب التمثيلية والشركات الخاصة. باختصار، هناك ما يزيد على 1000شركة فرنسية، منها 400 فرع بالمغرب لشركة فرنسية كبرى، توجد كلها ضمن ما تسميه الحكومة الفرنسية «الوجود الاقتصادي الفرنسي».الجميع يعرف أن الشركات الفرنسية الموجودة بالمغرب مجتمعة كلها حسب غرفة التجارة الفرنسية والصناعة بالمغرب ضمن تسمية كبيرة هي «الوجود الاقتصادي الفرنسي».لكن ما حكاية «الوجود الاقتصادي الفرنسي» بالضبط؟إذا عدنا إلى تقليب بعض الصفحات المنسية من التاريخ الراهن للمغرب، فإننا سنعثر على جذور هذه المؤسسة منذ بداية الخمسينيات. فقد كانت عبارة La Présence Française تحيل على منظمة قوية تدافع عن المصالح الاقتصادية للمستعمر الفرنسي بالمغرب. ولم تكن هذه المنظمة تكتفي بالدفاع السلمي عن مصالح المستعمرين الفرنسيين الاقتصادية، بل كانت لديها ذراع مسلحة تقودها ميليشيات تطارد المقاومين المغاربة.
أحد زعماء منظمة «الوجود الفرنسي» كان هو الدكتور «كوس»، وكانت ضمن أعضاء منظمته شخصيات ذات نفوذ كبير من أمثال «كاترين لاكوست» و»جون دوشاطو» والصحافي «ماكسينس طوماس». ولأن «الوجود الفرنسي» كان محتاجا إلى أدوات إعلامية لربح معركته، فقد جاءت فكرة تأسيس إمبراطورية «ماص» الإعلامية. وهكذا، أصبحت مجموعة «ماص» تتحكم في الأغلبية الساحقة من الصحف الصادرة في المغرب، وأطلقت جرائد بالفرنسية أهمها «ليكو دي ماروك»، و»لوبوتي ماروكان»، و»لافيجي ماروكان»، و»لوكوريي دي ماروك»، و»لاديبيش ماروكان». وقد تخصصت هذه الجرائد في الدفاع عن الإيديولوجيا العنصرية الاستعمارية لمنظمة «الوجود الفرنسي» وتحويل المقاومين المغاربة إلى إرهابيين.
ولعل أكبر ضربة تلقتها منظمة «الوجود الفرنسي» كانت هي اغتيال أحد أدمغتها المفكرة وأحد أكثر أعضائها تأثيرا، ويتعلق الأمر بالدكتور «إميل إيرود» الذي تربص به ثلاثة مقاومين يوم 30 يونيو 1954، هم محمد بلمختار

وإدريس لحريزي وإبراهيم فردوس، وأردوه قتيلا في أحد شوارع وسط الدار البيضاء.
الآن وقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر ونسي المغرب مقاوميه ونسيت فرنسا معمريها، ما جدوى تسمية غرفة التجارة والصناعة الفرنسية بالمغرب للشركات الفرنسية الموجودة بالمغرب باسم «الوجود الاقتصادي الفرنسي»، علما بأن هذه التسمية تعني في الوجدان الشعبي المغربي ما تعنيه.
السؤال نفسه يطرحه كثيرون عن جدوى الاحتفاظ بتسمية الثانوية الفرنسية التي تجسد التمثيل الأسمى للتعليم والتكوين الفرنسي باسم «ليسي ليوطي»، علما بأن هذا الاسم فيه حمولة استعمارية واضحة، بحكم إحالته على اسم الماريشال الذي كان مشرفا على تنفيذ مخطط الاستعمار الفرنسي بالمغرب.
والمصيبة أن اسم هذا الماريشال، الذي استعمر المغرب وقتل أبناءه بالآلاف، أصبح مرادفا لدى المغاربة للتعليم الجيد الذي يضمن مواصلة التكوين في معاهد فرنسا والحصول على شواهد تصلح لتقلد مناصب المسؤولية في المغرب.
هكذا، عوض أن يكون ليوطي رمزا للاستعمار أصبح رمزا للتعليم والتكوين الجيد الذي يتهافت عليه المغاربة ويدفعون نصف رواتبهم من أجل تعليم أبنائهم فيه.
إن إصرار غرفة التجارة والصناعة الفرنسية بالدار البيضاء على جمع شركاتها وفروع مؤسساتها المالية بالمغرب تحت مؤسسة «الوجود الاقتصادي الفرنسي»، والذهاب إلى حد إصدار دليل سنة 2008 يحمل هذا الاسم، ليس من قبيل الصدفة، بل هو رسالة واضحة إلى كل من يقرأ التاريخ ويفهمه، مفادها أن هناك جهات في فرنسا لازالت تعتبر المغرب مستعمرة تابعة لنفوذها الاقتصادي لا يحق لأية دولة أخرى الاقتراب منها.
وكما كانت لمنظمة «الوجود الفرنسي» صحافة «ماص» التي تدافع وتبرر سياستها العنصرية الاستعمارية، هناك اليوم صحافة فرنكفوفونية مجندة يوميا وأسبوعيا للدفاع عن مصالح الوجود الفرنسي في المغرب. وقد رأينا جميعا كيف تحركت وزارة الخارجية الفرنسية بنفسها وحركت معها ذراعها الإعلامي «فرانس 24» وإذاعة «ميدي1» عندما صادرت وزارة الداخلية مجلتي رضا بنشمسي بسبب خرق هذا الأخير للقانون ونشره، باتفاق مع جريدة «لوموند»، استطلاعا للرأي حول الملك.
إن هذا النوع من المجموعات الإعلامية المسخرة بالكامل لخدمة التدبير المفوض للاستعمار عن بعد وبكلفة أقل، أصبح يشتغل بالطريقة نفسها التي كانت تشتغل بها صحافة «ماص» خلال فترة الاستعمار الفرنسي. ولفرط استعلائها وتجبرها واستئسادها على ثقافة ولغة ومقدسات بلادها، أصبحت صحافة «ماص» الجديدة تطالب علانية بإلحاق المغرب بفرنسا لغويا وثقافيا وسياسيا.
غدا بحول الله نشرح تجليات هذا التدبير المفوض للاستعمار الفرنسي في حياتنا اليومية، ونحلل بالأرقام كم يكلف هذا التدبير المفوض للاستعمار خزينة الدولة بالعملة الصعبة.

بعد أكثر من نصف قرن على حصول المغرب على استقلاله، وجدنا أنفسنا لازلنا خاضعين لسلطة الشركات الفرنسية التي تتحكم في قطاعات الخدمات العمومية الأكثر حيوية. وعندما لا تستطيع بلاد أن تحكم سيطرتها على قطاع تدبير الماء والكهرباء والتطهير والنقل داخل مدنها الكبرى، فذلك يعني أنها فشلت في إحكام سيطرتها على قطاعات تدخل في خانة السيادة الوطنية.
عندما كانت شركة «لاليونيز دي زو» الفرنسية تعاني من مشاكل مادية على عهد جاك شيراك، ظل هذا الأخير يصر وبإلحاح على إدخال فرع هذه الشركة إلى الدار البيضاء لتدبير الماء والكهرباء والتطهير. لكن مستشاري مجلس المدينة رفضوا

العرض. فانتظر وزير الداخلية القوي آنذاك، إدريس البصري، اقتراب فترة الانتخابات البلدية لسنة 96، وأعاد طرح المشروع أمام المنتخبين. وخوفا من أن تستعمل الداخلية أساليبها القديمة لتزوير الانتخابات وإسقاط أصحاب الرؤوس الساخنة، صوت المجلس بالإجماع لصالح دخول «ليدك» إلى الدار البيضاء وتسلم تدبير الماء والكهرباء والتطهير من يد «لاراد».جاء الفرنسيون «طوال» أول مرة، ودخلوا على شركة تتوفر على الأطر والمعدات والزبائن، وقضوا سنة كاملة يطلعون على الأوراق المستندات. وعندما انتهى العام، أرسلوا فاتورة قيمتها ثلاثة ملايير سنتيم، هي مجموع مصاريف تنقل وأكل وإقامة أطر وموظفي «ليدك» في الفنادق، إلى إدارة «لاراد» وطالبوها بدفعها. فدفعتها لهم طبعا. وهكذا تسلمت «ليدك» شركة عمومية قائمة وبدأت تتقاضى أرباحها منذ السنة الأولى. والنتيجة هي أن الدار البيضاء تغرق في كل مرة تهطل فيها الأمطار، والمواطنون يدفعون فواتير مجنونة كل شهر، وكل من يرفض الدفع يقطعون عنه الماء والضوء. والكارثة هي أن «ليدك» اليوم تريد أن تشتري هكتارات كاملة من الأراضي بالدار البيضاء رغم أن القانون يمنعها من ذلك. ومن يدري فقد تنوع من استثماراتها وتتحول من قطاع الماء والكهرباء والواد الحار إلى قطاع العقار.
أما في الرباط العاصمة، فقد أحكمت شركة «فيوليا» الفرنسية، كذلك، قبضتها على قطاعي تدبير الماء والكهرباء والتطهير بعدما أعطاها عمدة المدينة السابق البحراوي، الذي انتقل للعيش مع أسرته الآن في كندا، صفقة تدبير الماء والكهرباء والتطهير مقابل صفر درهم. وهاهي اليوم «ريضال» تطالب العمدة الحالي فتح الله والعلو بتسديد ملايير محترمة لصندوق الشركة، مما اضطره -بسبب العجز المالي الذي يعاني منه صندوق العمدة- إلى طلب مساعدة وزارة الداخلية لكي يؤدي ديونه حتى لا تقطع «ريضال» الكهرباء عن مصابيح الإنارة العمومية بشوارع العاصمة التي يظل نصفها مطفأ اقتصادا للنفقات.
وفي تطوان وطنجة، استحوذت شركة «فيوليا» على أسهم البرتغاليين والإسبان في شركة «أمانديس» وأصبحت المالك الرئيسي للشركة المدبرة لمياه وكهرباء الشماليين. وهكذا نكتشف أن الشركتين الفرنسيتين «فيوليا» و«ليدك» تتحكمان في تدبير الماء والكهرباء والتطهير لحوالي عشرة ملايين مواطن مغربي في الدار البيضاء والمحمدية والرباط وطنجة وتطوان.
وإذا أراد مجلس المدينة بالرباط أن يسترد شركة «ريضال» فإن كلفتها الإجمالية تتعدى 400 مليار بكثير، مع أن المجلس السابق أهداها للفرنسيين «فابور». وهذه الشركات الفرنسية، التي تستحوذ على تدبير هذه القطاعات الحيوية والحساسة للمغاربة، تشتغل وفق عقلية استعمارية واضحة. فهي تلجأ باستمرار إلى تشغيل أطر فرنسية، أغلبها مشرف على التقاعد، تؤدي لأغلبهم راتبا شهريا يصل إلى 20 مليون سنتيم، مع الاستفادة من السائق والسيارة، «رونو» أو «ستروين» أو «بوجو» طبعا، أي الماركات الفرنسية. وعندما تحتاج إلى إنجاز دراسة فإنها تلجأ إلى مكاتب دراسات فرنسية. هذا يعني أن الأموال التي تدفعها «ريضال» و«ليدك» لأطرهما الفرنسية ولمكاتب دراساتهما الفرنسية بالدرهم المغربي، تعود إلى التحول نحو الأورو وتغادر المغرب نحو فرنسا. فأغلب الأطر الفرنسية التي تأتي بها هذه الشركات للعمل بالمغرب تأتي لكي توفر المال. وهذه الأموال التي يتم توفيرها لا تبقى في المغرب، بل تغادر بعد تحويلها إلى عملة صعبة.
وإذا أضفنا إلى هذه الأموال المحولة كل الأرباح السنوية التي تخرجها هذه الشركات من المغرب، فهمنا لماذا تعاني البنوك المغربية اليوم من شح في السيولة. فاحتياطي العملة الصعبة في بنك المغرب لم يعد يكفي لتغطية ستة أشهر، أي أننا نقترب من مرحلة الخطر بسبب هذا النزيف الذي تعرفه خزينة الدولة بسبب تضخم أرباح الشركات الفرنسية بالخصوص، وحرص هذه الشركات على إرسال أرباحها نحو الشركات الأم التي تعاني أزمة حادة بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة في أوربا.والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو كيف لهذه الشركات الفرنسية أن تعاني من أزمة مالية في عقر دارها، بينما تعيش فترة ازدهار في المغرب.الجواب بسيط للغاية، فهذه الشركات تتمتع بمعاملة تفضيلية فوق أرضنا، ويسمح لها بالقيام بأشياء إذا ارتكبت ربعها في فرنسا فإن مديرها ينتهي في السجن.
والدليل على ذلك فضيحة تهريب مسؤولين فرنسيين في «ليدك» للعملة الصعبة ودخول وزير الداخلية على الخط من أجل «تبريد الطرح» عوض تطبيق القانون واقتياد المخالفين له إلى المحكمة.
ولعله ليس من المستغرب أن نرى كيف أن المشاريع الكبرى والقطاعات العمومية المربحة المفروض في الدولة والجماعات تسييرها وعدم تفويتها إلى الخواص، أغلبها محتكر من طرف شركات فرنسية. مشروع «التي.جي.في»، مثلا، تشرف عليه شركة «ألستوم» الفرنسية. وقد بحث غلاب، أحد تلامذة معاهد فرنسا النجباء، عن كل مبررات العالم لكي يقنع المغاربة، الذين لازال نصفهم يتنقل فوق ظهور الحمير والبغال، بحاجتهم الماسة إلى قطارات فائقة السرعة.
في الحقيقة، ليس المغرب الذي يوجد بحاجة قطارات فائقة السرعة، بل فرنسا التي توجد بحاجة إلى توقيع صفقات كبرى لشركاتها في مستعمراتها السابقة. كما أن بنوكها بها حاجة ماسة إلى تمويل مشاريع كبرى على الأمدين المتوسط والطويل. هكذا تستفيد شركات وبنوك فرنسا من هذه الصفقة التي ستعود عليها جميعا بأرباح وفوائد تمتد لعقود. وعندما نقول «التي.جي.في» فإننا نقول الصيانة والمعدات، وهذه الأشياء ستكون كلها فرنسية. ونحن المغاربة من سيدفع الثمن كمستهلكين.
ومن يرى كيف تحصل شركة «ألستوم» على الصفقات الكبرى بالمغرب، آخرها صفقة «طرامواي» الدار البيضاء، يتساءل هل فرنسا وحدها من يستطيع تصنيع عربات القطارات و«الطرامواي» والسكك؟ أليست هناك دول صناعية متطورة، كألمانيا وإيطاليا واليابان وغيرها، تستطيع أن تدخل غمار المنافسة وتقدم عروضا يستفيد منها المغرب؟ الجواب هو أن كثيرا من الدول الصناعية تخشى دخول غمار المنافسة لأنها أصبحت مقتنعة بأن المغرب هو الحديقة الخلفية لفرنسا. وهذا الاحتكار الفرنسي للمغرب أصبح يكلفنا غاليا، ويحرمنا من الاستفادة من عروض مغربية يمكن أن تقدمها شركات عالمية للمغرب تساهم في خفض كلفة المشاريع الكبرى على ميزانيته المختلة في هذه الأزمنة الاقتصادية الصعبة التي لا تسمع فيها سوى «راسي يا راسي».عندما قلنا سابقا إن فرنسا، باتفاق مع حزب الاستقلال، وضعت برنامجا تعليميا مضبوطا لتكوين النخبة التي ستسهر فيما بعد على تدبير استعمارها للمغرب عن بعد وبتكلفة أقل، فإننا لم نكن نرمي بالكلام على عواهنه، وإنما كنا نقصد أن التعليم بالنسبة إلى فرنسا واجهة أساسية لضمان استمرار الدفاع عن مصالحها في مستعمراتها السابقة.
وبجولة بسيطة على المشاريع الكبرى التي يطلقها وزراء حزب الاستقلال ومسؤولو العائلة الفاسية الفهرية، فإننا نكتشف بسهولة كيف أن الأغلبية الساحقة من هذه المشاريع ممنوحة لشركات فرنسية. وسواء في الطرق السيارة أو الموانئ أو المطارات، فإن خريجي مدرسة «الطرق والقناطر» الفرنسية هم الذين يتولون السهر على هذه المشاريع من ألفها إلى يائها.
وليس لوبي «الطرق والقناطر» وحده هو الذي يتولى السهر على إدخال المزيد من الشركات الفرنسية وتمهيد الطريق أمامها لإخراج المزيد من العملة الصعبة، بل هناك لوبيات أخرى يتجمع فيها خريجو المدارس والمعاهد العليا الفرنسية، والذين يعتبرون أحسن سفراء مدافعين عن «الوجود الاقتصادي الفرنسي» بالمغرب بحكم دراستهم في فرنسا وتشبعهم بالثقافة واللغة الفرنسية. ومن بين هذه التجمعات، هناك «بولي تك*-تم الحذف. كلمة غير محترمة لا يسمح بها في هذا المنتدى-*» و«تيلي كوم» و«سيب أيغو».ولعله ليس سرا أن خريجي كل هذه المعاهد يحتلون مناصب مهمة في المؤسسات الحكومية والعمومية، وحتى الخاصة. وخريجو هذه المعاهد هم الأكثر حظوة بالحصول على مناصب عمل، أكثر بكثير من خريجي معاهد كندا وأمريكا الشمالية.
الرسالة إذن واضحة، لكي تضمنوا حصول أبنائكم على مناصب المسؤولية في بلادكم عليكم بهذه المعاهد، فهي وحدها القادرة على منحهم مفاتيح الوزارات والمؤسسات العمومية الكبرى.
وهكذا تضرب فرنسا عصفورين بحجر، تنجح في ضمان خلق نخبة مغربية مفرنسة قادرة على الوصول إلى مناصب المسؤولية، وتضمن دفاع هذه النخبة عن مصالح فرنسا بمجرد ما تمسك بزمام المسؤولية.
وهكذا يتحقق أهم بند في اتفاقية «إكس ليبان»، والمتعلق باحترام المغرب لمبدأ «الاستقلال داخل التبعية»، أو ما اصطلح عليه الوفد المفاوض بـIndépendance dans l’interdépendance.على حزب الاستقلال، الوصي الشرعي والوحيد على بنود اتفاقية «إكس ليبان»، أن يقول للشعب المغربي متى ستنتهي صلاحية هذه الاتفاقية المهينة حتى يستريح المغاربة من هذه التبعية ويحصل المغرب، أخيرا، على استقلاله كاملا.
اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.

الجهاد الأكبر
وأنتم تقرؤون هذه الحلقات الثلاث التي خصصناها تباعا للحديث عن مخلفات اتفاقية «إكس ليبان» التي لازال المغاربة يدفعون ثمنها إلى اليوم، ربما تكونون قد فهمتم، أيها القراء الأعزاء، لماذا قال محمد الخامس، مباشرة بعد عودته من المنفى عقب استقلال المغرب، قولته الشهيرة: «لقد رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». فقد كان رحمه الله يعرف أكثر من غيره كواليس الاتفاقيات التي وقع عليها أقطاب حزب الاستقلال ووجهاء فاس مع الفرنسيين في «إكس ليبان». ولذلك لم يجد من وصف يعطيه للمهمة التي تنتظره وتنتظر المغاربة بعد الاستقلال سوى وصف الجهاد الأكبر.

وهذا الجهاد بدأه الراحل عبد الله إبراهيم مع أول حكومة عرفها المغرب المستقل، خصوصا عندما شرع الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد، بعد انشقاقه عن حزب الاستقلال، في خلق المؤسسات المالية الوطنية التي ستضمن للمغرب سيادته الاقتصادية، كبنك المغرب وصندوق الإيداع والتدبير والبنك المغربي للتجارة الخارجية، وغيرها من المؤسسات التي أخرجت المغرب من سطوة الفرنك الفرنسي.
لكن ردة فعل حزب الاستقلال لم تتأخر، فسقطت حكومة عبد الله إبراهيم تحت قصف المدفعية الثقيلة لأقطاب الحزب وجرائده دون أن تكمل مخططها الاقتصادي الوطني.
ومنذ ذلك الوقت المبكر من الاستقلال، فهم الفرنسيون أن الحل الوحيد لضمان تبعية المغرب لباريس لن يكون بدون أداة واحدة وهي التعليم. ولذلك، فمأساة التعليم في المغرب التي يبحثون لها عن حل ليست وليدة اليوم، وإنما جذورها توجد في «إكس ليبان». تجولوا قليلا في شوارع العاصمة الرباط ولاحظوا بأية لغة اختارت شركة «فيوليا» أن تخاطب المغاربة. جميع العبارات والاتجاهات المكتوبة على اللوحات الإلكترونية لحافلات الخردة التي جلبتها من «لافيراي» مكتوبة باللغة الفرنسية، وكأن شوارع الرباط امتداد طبيعي لشوارع باريس. فرنسا، مثلها مثل جميع الدول ذات التاريخ الاستعماري، تعرف أن اللغة أداة حقيقية وفعالة لإطالة أمد الاستعمار الاقتصادي داخل مستعمراتها السابقة. ولهذا الغرض، أنشأت وزارة خاصة بالفرانكوفونية تنفق عليها ميزانية سنوية تعادل الميزانية الحكومية السنوية للمغرب.
اللغة والثقافة الفرنسيتان توجدان في خدمة الاقتصاد الفرنسي أساسا. وهذا ما لا تريد الحكومة المغربية أن تفهمه. اللغة والثقافة مصدران من مصادر الدخل، وليستا وزارة مهملة تستجدي ميزانية سنوية من الدولة لا تتعدى واحد في المائة كما هو حال وزارة الثقافة المغربية.
وأنا أتابع التغطية اليومية التي تقدمها قناة «كنال بلوس» الفرنسية لفعاليات مهرجان «كان» السينمائي، سمعت عمدة المدينة يجيب عن سؤال طرحه عليه أحد الصحافيين حول الميزانية الإجمالية التي تنفقها مدينة «كان» على مهرجانها السينمائي، فقال العمدة إن الميزانية تصل إلى ستة ملايين أورو، قبل أن يضيف أن عائدات المهرجان على المدينة تصل إلى ثلاثة أضعاف هذا الرقم، أي أن بلدية «كان» تنفق ثلاثة ملايين أورو على المهرجان وتربح بعد كتابة أسمائها باللغة العربية إلى جانب الفرنسية، بل أصبحت تكتفي بالفرنسية وحدها كلغة للتواصل.
حتى في زمن الاستعمار كان الماريشال ليوطي يفرض بالقانون على أصحاب المحلات التجارية والشركات والمؤسسات كتابة أسمائها باللغة العربية وتحتها الترجمة الفرنسية. إنني لأشعر بالخجل والعار عندما أتجول في شوارع الدار البيضاء فأكتشف أن المحلات التي تكتب أسماءها بالعربية والفرنسية هي نفسها المحلات التي ظلت صامدة منذ فترة الاستعمار. أما المحلات التي نبتت في ظل الاستقلال فغالبيها لا تحلو لأصحابها كتابة أسمائها سوى بالفرنسية. والنتيجة أنك أصبحت تدخل أغلب المطاعم المغربية فيقدمون إليك، بلا حياء، لائحة الطعام مكتوبة بالفرنسية وحدها، وكأنك في إحدى المقاطعات الفرنسية.
إن إحدى أدوات الاستعمار اللغوي الفرنسي في المغرب هي المركز السينمائي المغربي والقناة الثانية.
هل تعرفون أن أحد الشروط التي كانت، إلى حدود الأمس، ضرورية لوضع سيناريو في المركز هو تقديمه بالفرنسية. ومنذ إنشاء المركز والمخرجون يكتبون السيناريو بالعربية ثم يترجمونه إلى الفرنسية لكي يقبله المركز، الذي يوجد على رأسه اليوم فرنسي من أصل مغربي اسمه الصايل.
هل تعرفون أن مديرة الأخبار بالقناة الثانية ونائبة المدير الحالية سميرة سيطايل فرنسية المولد والمنشأ ولا تميز الليف من عصا الطبال في اللغة العربية. هل يعقل في بلد يحترم نفسه أن تحتل سيدة لا تفهم ولا تقرأ اللغة الرسمية للبلد، منصبا حساسا ومهما وخطيرا مثل مديرة الأخبار ونائبة المدير في قناة عمومية.
هل تتصورون أن قناة عمومية فرنسية ستقبل بتشغيل مديرة أخبار ألمانية من أصل فرنسي
تجيد اللغة الألمانية ولا تفهم اللغة الفرنسية.
لهذا كله، فالجهاد الأكبر الذي أوصانا به محمد الخامس هو الجهاد من أجل حماية اللغة والهوية المغربية من المسخ الذي يتهددها من كل جانب. هناك اليوم هجمة شرسة وحاقدة ومدمرة على لغة القرآن التي اعتمدها المغرب كلغة رسمية في دستوره. وخلف هذه الهجمة الحاقدة نعثر على «وليدات فرنسيس» متنكرين في ثياب المدافعين عن إعلان الأمازيغية لغة رسمية مكان العربية وإحلال الدارجة مكان العربية في التعليم الأساسي مثلما طالب بذلك وزير التعليم السابق بن الشيخ إرضاء لأولياء النعمة، والقطع مع اللغة العربية والاقتصار على الفرنسية مثلما طالب بذلك «كسيكس»، أحد الأطر في معهد heci، الذي يعتبر أحد أقوى معاقل التعليم الفرنكوفوني الخاص بالمغرب.
البعض يعتقد أن الحرب على اللغة العربية في المغرب تختفي وراءها أهداف دينية بالأساس. والحال أن الهدف الاقتصادي هو المحرك الرئيسي لهذه الحرب. فمن يفرض لغته يفرض تعليمه، ومن يفرض تعليمه يفرض نخبته، ومن يفرض نخبته يفرض تبعيتها لمصالحه الاقتصادية ودفاعها المستميت عن هذه المصالح عندما تمسك بزمام التسيير والسلطة.
هذه ببساطة هي المعادلة. وجميع التفاصيل والجزئيات التي ترونها حولكم، سواء كانت يافطة مكتوبة بالفرنسية معلقة على واجهة مطعم أو عبارة مرسومة بالحروف اللاتينية فوق حافلة عمومية تابعة لشركة فرنسية أو شخصية عمومية تخاطبكم بالفرنسية في التلفزيون، فإن كل ذلك ليس سوى شظايا لهذه الحرب المفتوحة بين لغتين وهويتين ومصيرين مختلفين.
ربما ستفهمون الآن بشكل جيد لماذا قرر إدريس بنهيمة، الفرنسي من جهة والدته والمغربي من جهة والده، أن يحمل شركة الخطوط الجوية الملكية مصاريف النقل المجاني للسياح الفرنسيين العالقين في المغرب بسبب السحابة البركانية، في الوقت الذي عجزت فيه شركات الطيران العالمية عن «التبرع» على سياح بلدانها بنفس المجانية.
وستفهمون أيضا لماذا قرر المدير العام السابق لصندوق الإيداع والتدبير إنقاذ شركة «كلوب ميديتيراني»، وذلك بالموافقة على ضخ أموال اليتامى والمحاجير المغاربة في رأسمال الشركة الفرنسية خلال اجتماع إداري عقد بالرباط على الساعة السادسة صباحا.
السر هو أن الفرنسيين يعتبرون أنفسهم في المغرب مواطنين من الدرجة الأولى، وعلى المغرب أن يعمل على ضمان راحتهم في كل الأوقات وأن يتدخل لإنقاذ شركاتهم عبر منحها صفقات في المغرب تعوضها عن الخسارات التي تراكمها في فرنسا. وكيف لا وقانون الصرف الذي تعمل به وزارة المالية وقانون الجمارك الذي يطبقه المغرب إلى اليوم موروث عن الاستعمار الفرنسي.
كل هذا يحدث ورئيسهم ساركوزي ووزيره العنصري في الداخلية يفعلان كل ما بوسعهما لطرد المزيد من المغاربة كل يوم من جمهوريتهم

.........................
 
كواليس ثورة الريف
خلال سنة 1956 تم اغتيال عباس المسعدي بمدينة فاس، وتم استخراج جثته من طرف قادة حزب الحركة الشعبية، وأعيد دفنه من جديد بأجدير، في قلب الريف، وكانت هذه هي الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة في أكتوبر 1958. المعطي مونجيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نحن الآن في منتصف خريف سنة 1958، كان الحر ما زال قائظا بمدينة فاس، وحينها كان عامل المدينة "الغالي العراقي" يعيش على أعصابه منذ عدة أيام، كان هذا الرجل قد احتل منصبا في غاية الخطورة، وهو منصب الكاتب العام للقيادة العليا لجيش التحرير، وكان في نفس الوقت مكلفا بجلب الأسلحة من إيطاليا، واستطاع بالرغم من ذلك، أن ينجو من الوقوع في أيدي المخابرات الفرنسية التي كانت تتعقبه. لذلك فهو كان من الرجال الذين يصعب التأثير عليهم. ولكن مع ذلك فإن الرجل مورست عليه ضغوطات من جميع الاتجاهات، وبالتالي فإنه لم يكن يدري لأي اتجاه سوف ينصاع، فرفيقه القديم في السلاح عبد الكريم الخطيب، ومعه المحجوبي أحرضان، جاءا ليخبراه بقرار استخراج بقايا رفات عباس المسعدي المدفون بفاس سنة 1956، وكان زعيما الحركة الشعبية الحديثة الولادة قد قررا أن يجعلا من قضية المسعدي "قميص عثمان" الجديد.
قضية ملتهبة
في الواقع كان الملك محمد الخامس ووزير داخليته آنذاك، قد عارضا بصفة رسمية نبش رفات القائد السابق لجيش التحرير بمنطقة الناظور، ولكن المدير العام للأمن الوطني، محمد الغزاوي، يبدو أنه كان له رأي آخر في الموضوع. لذلك سنجد أن عامل إقليم فاس الذي أعطى تعليماته للقوات التي كانت تعمل تحت إمرته بتشكيل حزام أمني على المقبرة، من أجل منع استخراج رفات عباس المسعدي، سرعان ما سيتراجع عن هذا القرار، حينما سيعطي أوامره لتلك القوات أن تنسحب حينما سيحل الظلام لتفسح المجال لزعيمي الحركة الشعبية بإتمام المخطط، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض الذي حصل على مستوى اتخاذ القرار السياسي بين قادة النظام؟ وكيف انتهى هذا الأمر بإشعال فتيل الثورة بالريف؟
فتيل انتفاضة الريف
خلال هذه الفترة كان المشهد السياسي بالمغرب حافلا بالصراعات والتناقضات، فقبل ستة أشهر كان حزب الاستقلال يهيمن عدديا على الحكومة، وكان يحاول بطريقة أو بأخرى أن يحد من الصلاحيات التقليدية للمؤسسة الملكية، وكان ولي العهد آنذاك مولاي الحسن، ينظر إلى هذه المحاولات بعدم الرضى، لذلك كان يعمل على دعم معارضي حزب الاستقلال في محاولاتهم لزعزعة حكومة أحمد بلافريج، وكان الغزاوي يتلقى تعليماته مباشرة من ولي العهد، وكان هذا الأخير هو الرئيس الفعلي لجميع الأجهزة الأمنية بالبلاد. وعلى المستوى العملي كان وزير الداخلية يترك بأريحية رئيس أركان القوات المسلحة الملكية (مولاي الحسن) لمباشرة جميع القضايا السياسية الحساسة.
لذلك فإن ولي العهد سنجده سيحضر بنفسه متخفيا إلى مدينة فاس في إطار التحضير لنقل جثمان عباس المسعدي إلى أجدير. حيث اكتشف ذلك، مسؤول جهوي كبير الذي تعرف عليه بالصدفة، وكان بمعيته أحد مؤسسي الحركة الشعبية، وخاطبه: "سميت سيدي لخدمتكم بشكل أفضل من الناحية الأمنية قد يكون مفيدا أن تطلعني على تنقلاتكم داخل المنطقة، والذي يعتبر حضوركم لزيارتها شرف كبيرا لها".

ولكن نقل رفات القائد السابق لجيش التحرير، لم يكن هو الفعل الوحيد الذي تم من أجل الضغط على حزب علال الفاسي والمهدي بنبركة.
ففي نوفمبر 1958 تم تفجير مجموعة من القنابل بمدينة بركان، المعقل القوي للحركة الشعبية، والذي خلف إصابات بليغة وقتيلين إثنين.
أياما بعد ذلك تم تفجير عبوة ناسفة بمدينة الدار البيضاء داخل مطعم من طرف أحد أعضاء حزب الاستقلال، وهو ما سيخلف سبعة جرحى.
وفي 18 نوفمبر وقع انفجار كبير بمدينة الخميسات، خلف 50 ضحية من بينهم ثلاثة قتلى.
الراوون لانفجارات بركان والخميسات كانت لهم روابط مع حزب الحركة الشعبية. وقد أدت معاقبة الجناة بفترات سجن طويلة إلى رفع حدة التوتر داخل البلاد.
الريف يحتضن رفات المسعدي
ولنعد إلى شريط الأحداث المتعلقة، بصفة خاصة، بإعادة دفن جثمان المسعدي بالريف، بمكان ليس ببعيد عن المكان الذي كان فيه المسير السابق لجيش التحرير يحضر فيه لهجوماته على الثكنات العسكرية الفرنسية.
تمت إعادة الدفن وسط تجمع كبير للقرويين المناهضين لحزب الاستقلال، وهذا ما دفع الحكومة إلى اعتقال كل من الخطيب وأحرضان، وسيتوجه الكومندان بن ميلود المقرب من أحرضان مباشرة مع قواته إلى بني وارين بمنطقة الريف. وهو ما أدى إلى مهاجمة مقرات الحزب الحاكم، وقطع الطريق من طرف بعض المتمردين الذين كانوا يتوفرون على عدد قليل من الأسلحة، وسيقررون بعدها القتال إلى آخر نفس.
كان هدير الثورة قد سرب بأن الأمير عبد الكريم الخطابي يدعم ـ إن لم نقل التمرد ـ الثورة المسلحة.
وبخلاف مقرات حزب الاستقلال، فإن المقرات القليلة والمناضلين المحليين لحزب الشورى والاستقلال لم يتم التعرض لهم من طرف الميليشيات الشعبية، والأكثر من ذلك أن أحد مناضلي هذا الحزب الأخير، سيتكلف بقيادة مجموعة من المتمردين الأفضل تنظيما، ويتعلق الأمر ب "محند سلام أمزيان"، الذي كان يشتغل معلما، قبل أن يلتحق بجيش التحرير، حيث قاتل إلى جانب عباس المسعدي، وبعدها سيقضي بضعة شهور في السجن بضواحي الرباط.
بمجرد اندلاع الثورة قام رئيس أركان القوات المسلحة الملكية (الأمير مولاي الحسن) بتنظيم قواته العسكرية بمدينة تطوان، وكان ينسق بصفة مباشرة حركة هاته القوات، فقام بإخضاع بني ورياغل (قبيلة عبد الكريم الخطابي، الذي كان ينظر إليه كمناهض للملكية)، واستعمل قوات مكثفة، وسال الدم كما لم يسل من قبل منذ استسلام عبد الكريم الخطابي بعد مرور ثلث قرن من ذلك، ولم يخف مولاي الحسن ذلك عندما أصبح ملكا حينما قال: "إن أبي رجل طيب، ولكننا ضربنا بقوة في بني ورياغل. وسنة 1959 كانت سنة لا يمكن نسيانها أبدا" وذلك خلال استجواب له مع أحد الصحفيين الأجانب، مؤكدا بأنه ليس تساهل وطيبوبة محمد الخامس، هي التي أوقفت التمرد، ولكن ذلك تم من خلال الفعالية واليد الحديدية للقوات المسلحة الملكية التي كان يديرها.
كان اليد اليمنى للأمير الحسن، خلال هذه الحرب هو الجنرال محمد أوفقير، الذي اتسمت أعماله بالوحشية الفظيعة التي استعملت في حق الريفيين.
فمن خلال شهادات الأشخاص المنحدرين من هذه الجهة الذين التقيناهم، فإن أوفقير كان يتلذذ بوضع القنابل اليدوية الموقوتة في جلابيب المتمردين الذين تم القبض عليهم، ويوهمهم أنه قد أفرج عنهم، وأنه بإمكانهم الذهاب إلى حال سبيلهم، ولكن ما أن يبتعدوا مسافة بعيدة حتى تنفجر فيهم تلك القنابل.
جهة غير محبوبة
مباشرة بعد إخماد التمرد، أعطى محمد الخامس أوامر لحكومة عبد الله إبراهيم بإطلاق سراح المحجوبي أحرضان وعبد الكريم الخطيب، وقام بتشكيل لجنة رسمية للتحقيق في ملابسات وأسباب اندلاع الثورة بهذه الجهة الشمالية، ونصب على رأس هذه اللجنة عبد الرحمن أنجاي، وهو رجل سياسي مثقف، ، وكان يشغل منصب رئيس الديوان الملكي، وأعطى الملك وعده بأنه سيبذل قصارى جهده للتخفيف من معاناة هذه الجهة.
تلقى الملك محمد الخامس لائحة الشكايات التي تم تحريرها من طرف عبد الصادق الشراط الخطابي (أحد أفراد عائلة عبد الكريم الخطابي)، وكانت تتركز حول ضرورة وضع حد لتهميش هذه الجهة.
نتائج تقصي الحقائق كانت محرجة للنظام، لذلك قرر الملك عدم السماح بنشر تقرير اللجنة.
أسباب تمرد الريف، تعتبر بعيدة عن أن تكون سياسية محضة، كما يوحي بذلك تسلسل الأحداث. ففي الواقع كانت الوضعية الاقتصادية في الريف وفي الأطلس المتوسط في أسوأ حالاتها، فحرب التحرير الجزائرية حدت بقوة من الهجرة الموسمية نحو الشرق، فالعديد من الريفيين الذين كانوا يذهبون للجزائر لجني العنب أو مزاولة أعمال زراعية أخرى، أو الاشتغال في قطاع البناء، حرموا من هذه الأعمال الموسمية. كما أن العديد من الجنود الذين كانوا يعملون في صفوف القوات المسلحة الإسبانية، تم تسريحهم بعد الإعلان عن الاستقلال، وتوقفت معها الأجور التي كانوا يعولون بها أسرهم.
ومن جهة أخرى فإن توحيد العملة وإلغاء العملة الإسبانية (البسيطة Peseta) وجه بدوره ضربة أخرى للوضعية الاقتصادية للجهة الشمالية التي كانت في الأصل هشة، فالفرق بين العملتين (الفرنك والبسيطة) كان مربحا لأولئك الذين كانوا يشتغلون في التهريب ما بين المنطقتين الإسبانية والفرنسية.
وانضاف إلى الصعوبات الاقتصادية، تدهور النظامين الاجتماعي والثقافي، فمع مجيء الاستقلال عملت الدولة على توحيد الإدارة، وتم ذلك على حساب النخب الناطقة باللغة الإسبانية، فمبعوثو الدولة إلى هذه الجهة لم يكونوا يتكلمون الإسبانية ولا الريفية، فتم اعتبارهم بمثابة المستعمرين الجدد، ولا سيما عندما كانوا يظهرون عدم احترامهم للتقاليد والذاكرة المحلية، فالريفيون كانوا يفتخرون بذكرى عبد الكريم الخطابي ومقاومته البطولية للقوات الاستعمارية، وكانت هذه البطولات تغذي بقوة مشاعر الانتماء الجهوي لدى هؤلاء، وأصبح العديد من الريفيين على استعداد للمغامرة للدفاع عن كبريائهم، وعن الشرف الذي طالما حموه بالغالي والنفيس، في مواجهة مختلف المحتلين الأجانب، وبالتالي يجب على المهيمنين الجدد أن يوقروه ويحترموه.
على المستوى السياسي، كانت الضحية الرئيسية لتمرد الريف هو حزب الاستقلال، الذي تجاوزته الأحداث، وترك وحيدا، أمام استئثار الملك وولي عهده بتقاسم الأدوار بكيفية ذكية في معالجة هذه الأزمة، وهكذا أياما قليلة بعد إخماد التمرد، حدث انقسام الحزب إلى قسمين رئيسين خلال أواخر يناير سنة 1959، بتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبذلك أصبحت الملكية بجناحها القوي الذي يمثله ولي العهد الأمير الحسن، قد استطاعت بواسطة "يدها الحديدية" من وضع الحد النهائي لهيمنة حزب الاستقلال.
ترجمة سليمان الخشين (مجلة زمان العدد 20 يونيو 2012)

شهادة
سلام الحاج أمزيان: هروبي وارتباطاتي بإسبانيا الفرانكوية
قام جنود مغاربة بمهاجمة منزلي بواسطة الطائرات، وهو المنزل الذي كنت فيه أنسق أعمال الثورة، كان لهؤلاء الجنود تعليمات صارمة للقبض علي حيا. كانوا يعتقدون أنني أتوافر على أسرار مهمة، لذلك لم يكن أمامي سوى الفرار من منزلي في جنح الليل، وخلال عملية الهروب كنت أشاهد الطائرات تحوم عاليا فوق منزلي... وبعدما غادرت المكان قام الجنود بترويع أسرتي، وهدموا منزلي، ثم جاءت الحشود لتنفذ انتقامها.
كانت القوات المسلحة المغربية تسعى لاصطيادي في الجبل، وتعقبتني حتى قبيلة بني توزين، وهناك اختبأت عند بعض الأصدقاء. بعد ذلك قيل لي بأن "التهامي" أحد المبادرين بالثورة كان ما يزال على قيد الحياة، كان رجلا شجاعا، وكان يحبني كثيرا، فأرسلت من يطلبه للالتحاق بي في بني توزين. وهذا ما حصل، حيث بقينا معا إلى حين هروبنا إلى إسبانيا.
كانت القوات المسلحة تتوافر على كلاب بوليسية جد مدربة، فمشينا على أقدامنا لوحدنا خلال الليل، وكنا محظوظين لأننا كنا نعرف جيدا مسالك تلك المنطقة، وفي أحد الأيام طلب منا شخص لا نعرفه أن نختبئ عنده. عندما تعرف علينا كان ينتحب، واقترح علينا أن يرافقنا في رحلتنا الليلية.
كان المتعاونون مع "المخزن" قد شاهدوني عندما غادرت منزلي، ولكنهم كانوا لا يعرفون الجهة التي توجهت إليها. كان معي مسدس، وقاروة سم، وفلفل أحمر. كنت قد اتخذت قرارا بالدفاع عن نفسي حتى الموت. وكنت مستعدا لتناول السم إذا ما تم القبض علي من طرف القوات المسلحة، أما الفلفل الأحمر فكنت أرشه من أجل تشتيت انتباه الكلاب البوليسية، وأما المسدس فكان من أجل الدفاع عن نفسي عند الضرورة.
كانت قبيلة بين ورياغل محاصرة من طرف القوات المسلحة، وكذلك الشأن بالنسبة لقبلية بقيوة. وخلال مرتين، كنت أدفن نفسي، وأرش الفلفل الأحمر على مخبئي، فكنت أحس بالكلاب البوليسية تسير فوقي دون أن تنتبه إلي، عندها فقط كنت أستطيع أن آخذ نفسا عميقا.
في الأخير لبثت ثلاثة وعشرين يوما مختبئا في الجبل بدون ماء ولا غذاء، وفي أحد الأيام أرسلنا مرافقنا "التوزاني" إلى سوق بني توزين. وكان عليه أن يتقصى الأخبار، وكان لا له أن يمر عبر لجنة للتفتيش، حيث تم إيقافه من طرف قوات مسلحة، وتم استجوابه، ولكنه لم يتكلم، وحينما عاد، واصلنا مسيرتنا في اتجاه مليلية، وكانت هذه هي معظم المتاعب التي واجهتنا أثناء رحلة الهروب.
بالقرب من مليلية صادفنا حفل زفاف، فاندس كل من "التهامي" و"التوزاني" بين المحتفلين لتقصي الأخبار، بينما أنا اتجهت لاستطلاع مسلك مؤدي إلى الحدود، وبمرور الوقت وصلت بمحاذاة سياج، وشاهدت في الجهة الأخرى جنديين يسير كل واحد منهما في اتجاه مخالف للآخر... فاعتقدت بأنهما إسبانيان، حيث لم أتبين هويتيهما بسبب الظلام، ولكنني بعد الاقتراب منهما اكتشفت أن الأمر يتعلق بمخفر تابع للقوات المسلحة المغربية، فقفلت راجعا بسرعة حتى لا يفطن الجنديان بوجودي، بعد ذلك واصلت السير مع مرافقي في اتجاه مدينة مليلية.
عندما وصلنا إلى مليلية كنت في حالة كارثية... ولم تمر سوى لحظات، حتى حضر حاكم مليلية لرؤيتي، وكان مصحوبا بوفد رسمي، كان ضمنه بعض النساء، ولقد كان الحاكم يتتبع عن كثب أحداث الريف، وكان يعتقد بأنه من المستحيل الإفلات من القوات المغربية. كنت مرتديا نفس الملابس التي كنت ألبسها عندما غادرت منزلي، وكانت قدماي حافيتن...
بعد ذلك قام الحاكم العام بإخبار الجنرال فرانكو بما حدث، فأعطى هذا الأخير أوامر بترحيلي من مليلية في اتجاه مالقة، فانتظرنا حتى تم إخلاء البارجة التي ستقلنا من الركاب، وأعطى الجنرال أمره بتفتيش البارجة، فتم ذلك دون أن يتم العثور على أي شيء مريب، ولكنه أمر بتفتيشها للمرة الثانية، وخلال هذه المرة سيعثر المفتشون على رجال كانوا تابعين لحزب الاستقلال على متن البارجة، وكانوا مختبئين في غرفة المحرك، فقام رجال الأمن الإسباني باعتقالهم بعد أن انهالوا عليهم بالضرب.
بعد هذا الحادث، أمر الحاكم بخفر البارجة من طرف رجال البحرية الإسبانية، فتبعتنا بارجة حربية حتى وصلنا إلى مالقة.
حينما وصلنا إلى مالقة، وجدنا أحد الجنرالات في استقبالنا، وعكس ما كنا نتوقع لم نتجه صوب مدينة مالقا، بل تم اقتيادنا على قصر في ضواحي المدينة ، حيث لم نمكث به سوى ساعتين، فاتجهنا بعد ذلك بواسطة ثلاثة سيارات عسكرية قامت بنقلنا إلى إشبيلية بأمر من الجنرال فرانكو، وكان بصحبتي كل من التهامي، وابن أخي "حمادي"، وهذا الأخير كان مكلفا بجلب الأسلحة من مليلية، حينما تم اجتياح الريف من طرف القوات المسلحة المغربية.
في إشبيلية، نزلنا بأحد الفنادق، وكانت حراستنا تتم نهارا وليلا، وكان يتناوب على حراسنا ضابط برتبة قائد وثمانية جنود مسلحين، وفي أحد الأيام لاحظ "حمادي" وجود أشخاص غير معروفين، ولقد ارتاب في هويتهم بعد أن لاحظ أنهم يلبسون أحذية غير إسبانية، فأخبرنا السلطات بذلك... ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي تعرضت فيها لمحاولة الاختطاف أو القتل في إسبانيا.
بعد إشبيلية طلبت نقلي إلى ألمرية، وفي هذه المدينة كان يوجد عدد كبير من أبناء الريف الهاربين من المغرب... بعد ثلاثة أيام علمت أن "اليوسي" كان موجودا في هذه المدينة برفقة ابنه. وكان اليوسي وزيرا في الحكومة المغربية، وقد حضر إلى هذه المدينة بأمر من الملك محمد الخامس، فطلبت من أخي عبد السلام أن يحجز غرفة في نفس الفندق الذي كان يقيم به، وأن يسعى إلى التصنت على المكالمات التي يقوم بإجرائها، ــ وكان عبد السلام يتقن الحديث باللغة الإسبانية ــ وهذا ما عمل على تنفيذه. وبعد مرور أيام علمت أن "اليوسي" قد رفع تقريرا إلى القصر الملكي يتضمن جميع ما دار بينه وبين المتمردين الريفيين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سلام الحاج حدو ولد سنة 1925 وتوفي سنة 1996.


سليمان الخشين 

..................
 
كيف كوّن وراكم الحسن الثاني الثروة الملكية؟

كتبهاmarouane ، في 27 أكتوبر 2010 الساعة: 20:36 م

سيظل التاريخ الحديث للمغرب، ولمدة طويلة مطبوعا بفترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، الذي ورث مغربا لكنه ترك مغربا آخر.

هذا الأخير عرف تحولات مع مطلع الألفية الثانية بفعل انعكاسات التغيرات العالمية، وبالتالي فإن بعض الأحكام التي تتخلل الملف الذي نقترحه على القارئ مع بداية السنة الجديدة، قد تكون أحكاما عن فترة أقفلت آفاقها بسبب جملة من التطورات الخارجية، وبالتالي أضحت تعد ملمحا من ملامح التاريخ، لكن تداعياتها وبصماتها القوية مازالت حاضرة بقوة، وبعضها مازال يفعل فعله.. فقد ذهب الكثيرون إلى القول إن الملك الراحل الحسن الثاني كان يعتبر المغرب ملكه والاقتصاد المغربي قضيته وشأنه الخاصين، وقد سبق له أن صرح للتلفزة الدانماركية في 15 فبراير 1986 ما معناه " أنه لو كان من الممكن عبادة غير الله لأقمت معلمة أمامي لأعبد بلدي، لذلك لا يمكن السماح بأي وجه من الوجوه المساس ببلدي.."

فما هو هذا المغرب الذي يتم الحديث عنه من منظور اغتناء الملك الراحل الحسن الثاني والأسرة الملكية؟ وما هي الآليات المعتمدة لمراكمة هذه الثروة؟ وهل كانت نعمة أم نقمة على المغاربة؟

لقد أجمع الباحثون على أن الملك محمد الخامس لم يكن ثريا ولم يكن يولي الاهتمام لجمع أو مراكمة الثروة بل كان يكتفي بما يجعله يعيش مع عائلته عيشة كريمة.

وبعد عودته من المنفى كانت ثروة العائلة الملكية أقل بكثير من ثروة أغنياء المغرب. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما كشف عنه الصحفي "إيناس دال" في كتاباته، وهو الذي عمل خمس سنوات كمراسل للوكالة الفرنسية للأخبار (AFP) بالمغرب، وذلك بخصوص برقية لـ "أندريلويوس ديبوا" مؤرخة في 3 يناير 1956، جاء فيها أن السلطان محمد الخامس كان يرغب أن تقوم فرنسا بتعويضه بشكل مناسب عن 26 شهرا التي قضاها مضطرا رفقة أسرته في المنفى بكورسيكا ومدغشقر، وكان قد قدر ما صرفه بما يناهز 70 مليون فرنك فرنسي عندما كان بكورسيكا.

وفعلا وافقت فرنسا بسرعة فائقة على تخصيص ما قدره 600 مليون فرنك فرنسي كتعويض عن الأضرار، وفي 4 يناير 1956 أذن "آلان سافاري" بتحويل التعويض المذكور إلى حساب السلطان بالرباط.

الثروة الملكية بين محمد الخامس والحسن الثاني

حسب أغلب المؤرخين والمحللين الاقتصاديين، لم يكن الملك الراحل محمد الخامس ثريا جدا، عندما استعاد المغرب استقلاله سنة 1956.

في حين راكمت العائلة الملكية ثروات طائلة خلال عهد الحسن الثاني، إلا أنها ظلت محجوبة عن المغاربة، فلم يكن الفصل 168 من قانون المسطرة الجنائية ليشجع البحث والتقصي حول مصادر ثروة الملك والأسرة الملكية، ورغم أن المعارضة في عهد الحسن الثاني كانت تندد بالرشوة والفساد إلا أنها كانت تتجنب الحديث مباشرة عن الملك وأسرته.

تعددت وتنوعت مصادر الثروة الملكية بسرعة فائقة في الستينات، عبر الاستمرار في قطاع التجارة الخارجية ومشاركة الرأسمال الأجنبي، آنذاك بدأ يرسم بوضوح الخط الفاصل بين مغربين : مغرب الملك والأسرة الملكية والدوائر المحيطة بالبلاط من جهة، وهو مغرب الثروات والأرباح الطائلة، ومن جهة أخرى، مغرب الفقر الخاضع للقمع الدائم والمستمر، حيث ابتداءا من يوم 7 يونيو 1965 أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن حالة الاستثناء، وأضحى يتحكم في كل شيء إلى حدود سنة 1970.
منذ ذلك الحين أصبح الحسن الثاني الملاك العقاري والمقاول الأول وأكبر صاحب رأسمال بالمغرب، وذلك عبر شبكات متقاطعة من الشركات والأشخاص الذين كانوا يظهرون في الواجهة، فأهم الصناعات المغربية المنتجة لأكبر الأرباح، في المنظومة الاقتصادية المغربية، كانت منذ منتصف الثمانينات بحوزة الملك، وكذلك امتداداتها في الخارج.

فعلاوة على الثروة المتواجدة بالتراب الوطني (أراضي، عقارات، شركات، مصانع، أبناك، قصور، ضيعات ومساهمات..)، فإنه كان يتوفر على حسابات بنكية بسويسرا وأراضي وأملاك عقارية و"رانشات" بأوروبا وأمريكا والبرازيل.. وبعد وضع يده على جزء كبير من خيرات البلاد، عمل الملك الراحل الحسن الثاني على تنمية ثروته خارجها. وفي هذا الصدد اقتنى بمعية أحد وزراء الجنرال فرانكوا سابقا، 2000 هكتار من غابات البرازيل. كما كشف أكثر من مصدر علاقة الحسن الثاني المصلحية بجملة من كبريات الشركات الفرنسية، منها "سكوا" (SCOA) و"بويك " (BOUYGUES) و"صاف" (SAF) و"دوميز" (DUMEZ) و"نادي البحر الأبيض المتوسط" (Le Club Méditerranéen ).


أبناء الحسن الثاني وتركته المالية نزاع الأمراء والأميرات الذي فضه شيراك

حينما وجه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، دعوة للملك الحسن الثاني لحضور الاستعراض العسكري الفرنسي ليوم رابع عشر يوليوز، وهو امتياز نادر جدا من قادة فرنسا اتجاه نظرائهم عبر أنحاء المعمور، فقد كان واضحا أن الحسن الثاني كان يعرف أن أيامه الأخيرة معدودة في دنيا الحياة والأحياء، فقد كانت نظراته التائهة من أعلى المنصة الشرفية بساحة باب النصر بباريس بادية للعيان، كان يُفكر بدون شك بمصير أولاده من بعده، لذا فإنه بمجرد انتهاء الاحتفال الفخم المذكور اختلى بصديقه جاك وقال له هذه الكلمات بتأثر غير معهود عن الحسن الثاني: "اسمع يا صديقي العزيز، إن أجلي وشيك وإنني أترك لك أبنائي وأحفادي، أرجو أن تكون بمثابة ذلك الأب الذي لن أكونه".
يُمكن القول من خلال العديد من الوقائع التي تلت، إن جاك شيراك التزم بالوعد الذي قطعه مع الحسن الثاني، فقد سارع بمجرد نزوله بمطار الرباط وسلا، في اليوم الموالي لرحيل الحسن الثاني بتاريخ 23 يوليوز 1999، إلى الهمس في أذن محمد السادس: "إنني مدين بالكثير لوالدكم وأنا على استعداد لأفعل كل ما تطلبونه مني". وبطبيعة الحال - كما لاحظ ذلك الصحافي الفرنسي بيير توكوا الأكثر معرفة بكواليس العلاقة الفرنسية المغربية – لم ينتبه الملك الشاب آنذاك لجملة شيراك، واكتفى بالإجابة باقتضاب: "نعم.. نعم شكرا"، وانتقل إلى باقي المعزين من الرؤساء والملوك، غير أن شيراك كان قد وضع نصب عينيه أن يأخذ بيدي الشاب الحديث العهد بشؤون الحكم، كما وعد بذلك والده، غير أن الأيام التي تلت جاءت بمستجدات لم تكن في الحسبان، فحسب بعض المعطيات المتوفرة فإنه بمجرد مواراة جثمان الحسن الثاني، عرفت ردهات وأبهاء القصر الملكي بالرباط حركة جلبة خافتة، بين أغلب المقربين من الملك الراحل، والسبب هو محاولة تأمين المستقبل ضد عاديات الزمن، حيث نشر مثلا بيير توكوا في كتابه "آخر ملك.. أفول سلالة"، معلومات بهذا الصدد، أرجع بعضها إلى السنوات الأخيرة لحياة الحسن الثاني، وفَصَّل مثلا في الواقعة التي حدثت بين المرأة الأثيرة التي كانت لدى الحسن الثاني من كل نساء القصر، ونعني بها فريدة الشرقاوي، فهذه الأخيرة حاولت مد ربيبها هشام منداري بالكثير من الأموال التي كانت قَيِّمَة عليها في غرفة نوم الحسن الثاني، غير أن المعني - أي منداري - استغل الفرصة وقام بسرقة العديد من شيكات الحسن الثاني المُوقعة على بياض، كما أخذ أيضا معه وثائق كثيرة من الخزانة الخاصة للملك ثم ذهب إلى أمريكا وأوروبا مهددا ولي نعمته السابق، بإفشاء العديد من الأسرار الخطيرة الخاصة بالقصر؛ بيير توكوا تحدث أيضا عن الفوضى التي عمت أرجاء القصر، حيث حاولت العديد من محضيات الحسن الثاني، انتزع مجوهرات وحلي وأموال خُفية من خزائن الحسن الثاني بقصر تواركة، وذلك اتقاء لمغبة أيام الخصاص، سيما أن ولي عهد الحسن الثاني - أي محمد السادس - لم تكن نواياه واضحة بشأن مصيرهن، وقد كانت الأجواء الجنائزية التي غرق فيها القصر "مناسبة" لإتيان حركات دخول وخروج من القصر دون إثارة الشكوك، وتحدث البعض عن حلي ومجوهرات وكل ما خف وزنه مما يُمكن للنساء إخفاؤه في أماكن حميمية من أجسادهن، قد خرجت من القصر في تلك الظروف العصيبة.

غير أن الحدث الحقيقي بصدد مصير الكثير من ثروة الحسن الثاني الحقيقية هي التي كانت موضوع نزاع بين أشد المقربين إليه، فحسب الصحافي الفرنسي بيير توكوا المتخصص في إفشاء أكثر الأسرار المغربية غوصا في الصدور، وذلك بالاعتماد على مصادر من حاشية القصر، فإن الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان مطلوبا منه ذات يوم من صيف سنة 1999، عقب مرور بضعة أشهر على وفاة الحسن الثاني أن يقوم بزيارة مفاجئة خاطفة إلى العاصمة الرباط، حيث جرى اجتماع مُغلق بينه وبين أبناء الحسن الثاني، وكان الموضوع هو الطريقة التي ستتم بها توزيع التركة المالية الهائلة التي خلفها الراحل، وحسب الصحافي الفرنسي نفسه، فإن نزاعا كان قد شب بين الأمراء والأميرات، لذا كان مطلوبا من جاك شيراك أن يحل الإشكال قبل أن تتحول الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه، كأن ينفض المتنازعون عنه ويذهب كل واحد منهم ليقول ما لديه من تظلمات في أماكن شتى من العالم حول "حقه" الذي لم يصله من تركة الحسن الثاني، وكان - حسب الصحافي توكوا دائما - أن استطاع الرئيس الفرنسي مما لديه من علاقات وطيدة، شبه أسرية، مع أبناء الحسن الثاني ( لقد كان رئيس الدولة الأجنبي الوحيد، الذي ينطق أسماءهم العربية بالدقة المطلوبة، في مخارج الحروف حسب توكوا) أن يقترح صيغة لتوزيع الثروة الملكية بين الفرقاء، نالت رضاهم ونزعت فتيل التباغض الذي كان على وشك الاندلاع.
حكى الصحافي الفرنسي المذكور أيضا بعضا من تفاصيل هذا الخلاف الملكي، بين أم الأمراء (لطيفة) ومحمد السادس، حيث كانت المعنية تتبضع يوما ما غداة وفاة الحسن الثاني في أحد أفخم المتاجر بالعاصمة الفرنسية باريس، ليكتشف بعض حراسها الخاصين الأجانب، أن ثمة حراسة أخرى لأم الأمراء كانت تجري دون علمهم، وحينما شكوا في أمرهم، حيث اعتبروهم أفراد عصابة خاطفين، فكان أن حدث الاشتباك ليضطر الحراس السريون إلى الكشف عن هوياتهم باعتبارهم يعملون بأمر من قصر الرباط، فكان أن ثارت ثائرة زوجة الحسن الثاني، وهددت بأنها ستصنع من الواقعة منطلقا لفضيحة دولية مدوية، فتراجع حراس القصر السريون وتركوا المرأة سليلة آل أمحزون تواصل تبضعها في عاصمة النور.


مظاهر الثراء الملكي: كيف اختفت ثم عادت بعد رحيل الحسن الثاني؟

جاء في كتاب "نيكولا بو" و"كاترين غراسيي" (حين يُصبح المغرب إسلاميا) بصدد مظاهر الثراء الملكي بين الحسن الثاني ومحمد السادس ما يلي: ".. بعد مُضي سبع سنوات على رحيل الحسن الثاني حاول ابنه محمد السادس أن يقطع مع مظاهر الثراء والفخفخة المعروفة عن والده، وصحيح أيضا أن محمد السادس شجع وعمَّق الإصلاحات الديمقراطية التي كان أبوه قد التزم بها، مثل حقوق النساء وصولا إلى الحريات العامة. وبالمقابل فإن الملك الشاب تهرب من مسؤولياته في المجال الاقتصادي والاجتماعي. "إن هذا الغر لا يفعل ما يوصيه به جاك"، هكذا اشتكت بيرناديت شيراك (زوجة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك) للمنشط الإذاعي سطيفان بيرن، وهو ما قام هذا الأخير بنقله إلى صحافيين آخرين: ثمة مثال من بين أمثلة أخرى: فخلال أول دورة من سنة 2005 لم يجتمع مجلس الوزراء سوى مرة واحدة بقصر أكَادير على الساحل الأطلنتيكي، حيث كان مجموع الوزراء مُلزمين بالتنقل إلى هناك ذلك لأن الملك لم يكن يريد ترك هوايته المفضلة، وهي جيت سكي. كما أنه رفض حضور جل المؤتمرات الدولية، كما أن جدول استعماله الزمني أصبح من أسرار الدولة (…) وبالمقابل فإنه سافر كثيرا وبمظاهر ثراء جديرة بما كان يفعله والده الحسن الثاني، وبالفعل فإن بعض المقربين منه ألحوا عليه ليتخذ نمط الحياة الثرية التي كانت لوالده، وذلك بالحرص على الإنفاقات الكبيرة بلا حساب خلال سفرياته عبر أنحاء العالم، وبذلك فإن المخزن استعاد حقوقه. كما عاد أفراد الحاشية بنزواتهم ورغباتهم التي تُكلف غاليا، والوجهات المُفضلة للملك هي: فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا وأيضا السينغال وأمريكا اللاتينية والهند وجزر الكاريبي والإمارات العربية المتحدة بل وحتى الفيلبين. حيث يرافق الملك مئات الأشخاص من شتى أنواع الأصدقاء والحاشية ممن يبتسمون برضا وهم يتحدثون عن "التبراع" وشتى أنواع الاستمتاع والتمتع…".


السكرتير الخاص للحسن الثاني الذي "منح" ثلاثة ملايير لزوجته الألمانية

يذهب الكثير من العارفين بكواليس المعاملات المالية للقصر أيام الحسن الثاني، إلى أن كاتبه الخاص عبد الفتاح افرج يُعتبر الوحيد الذي كان يعرف "حقيقة" الثروة الملكية عبر أنحاء العالم فضلا عن تشعباتها بالمغرب، ومعلوم أن الرجل – أي افرج – كان متزوجا من امرأة ألمانية، وليس له منها أبناء، وأنه صفى كل ممتلكاته العقارية بالمغرب بعد وفاة الحسن الثاني، ليرحل رفقة زوجته العجوز إلى بلادها ما وراء نهر الراين ( وحسب بيير توكوا فقد كان افرج رافضا أمر الإقامة في فرنسا، على غرار أغلب أثرياء المخزن المغربي، الذين يختارون فرنسا لقضاء آخر أيام حياتهم، حيث كان يعرف أن ثمة تعاون وثيق بين أجهزة الاستخبارات المغربية والفرنسية)، وقد قدر البعض الثروة التي راكمها الرجل نقدا وعدّا، في مختلف الأبناك العالمية بثلاثة ملايير دولار، وحدث أن عبد الفتاح افرج كان قد نال منه المرض الخبيث كل النيل فمات عقب شهور قليلة من تحويل كل الأموال التي راكمها إلى ألمانيا، حيث كانت وفاته في شهر دجنبر سنة 2005، و"تصادف" هذا مع أحد البنود القانونية للإراثة تجعل ممتلكات النساء الألمانيات المتزوجات من أجانب من نصيبهن، وهكذا عض الكثير من أقرباء عبد الفتاح افرج على أصابعهم جراء ضياع كل تلك الثروة المالية الضخمة الذي "شفطها" قريبهم من المغرب على مر عشرات السنين، وذلك بعدما كان قد دخل قصر الرباط، وبالتحديد لتولي منصب صغير مغمور في الديوان الملكي، وهو لا يملك حتى حذاء محترما حسبما كتبه ذات يوم الصحافي المغربي المخضرم، مصطفى العلوي، العارف بالكثير من مثل هذه التفاصيل الصغيرة والكبيرة، عن الطرق التي اغتنى بها الكثير من "المزلوطين" الذين التصقوا بالحسن الثاني وأدوا له الخدمات المخزنية "الجليلة".


آليات مراكمة الثروة الملكية

تعددت الآليات المعتمدة من أجل الإثراء السريع على حساب الشعب، وقد ساهمت الاختيارات الرأسمالية التبعية منذ الاستقلال في توفير الكثير من السبل والطرق لوضع اليد على الثروات الوطنية بسهولة كبيرة قد تبدو أحيانا من قبيل الأشياء التي لا يتقبلها العقل، ومنها استغلال الديون الخارجية والامتيازات وشركاء الواجهة والإصلاح الزراعي و"المغربة" والخوصصة واسترجاع الأراضي من يد المعمرين الفرنسيين وتجميع الأراضي قبل بناء السد قصد استصلاحها لإعادة توزيعها وقوانين الاستثمار في مختلف القطاعات والاتفاقيات الدولية والهبات والمساعدات الخارجية، وغيرها من السبل غير الشرعية من قبل المضاربة في الامتيازات وتسهيلات اقتصاد الريع واستغلال النفوذ والارشاء والارتشاء، والسطو على الخيرات الوطنية وأموال الشعب، وممتلكاته بمجرد إصدار تعليمات شفوية أو عبر الهاتف، هذا في وقت ظل فيه القصر والعائلة الملكية في عهد الحسن الثاني المصدر الأساسي للإثراء ومركزا لمنح مختلف الامتيازات، وهي في عمومها نفس الآليات التي اعتمدها الاستعمار لإثراء المعمرين وعملائه والمتعاونين معه ورجال ثقته.

على امتداد فترة العهد الحسني ظل رجل واحد يتحكم في دواليب المنظومة الاقتصادية المغربية، إنه الملك الراحل الحسن الثاني، أمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية ورئيس الدولة.
قد يبدو الأمر غريبا في أعين الكثيرين إذا قلنا إن مختلف أساليب القمع والرعب والتخويف تعد، هي كذلك آلية من آليات تكوين الثروة ومراكمتها، وللتدليل على هذا القول تكفي الإشارة إلى ملاحظة تستدعي حقا التأمل، إذ منذ سنة 1956 إلى حدود التسعينات، لم يمر شهر واحد دون أن يكون الفلاحون أو الطلبة أو التلاميذ أو العمال أو المثقفون أو معتقلو الرأي، أو المعتقلون السياسيون أو حاملو الشهادات المعطلون أو حتى الجنود، في قلب حدث من الأحداث، ودون أن تعلن إحدى هذه الفئات عن غضبها أو تنديدها بالوضع المزري.

في خضم الغضب المستشري في صفوف أوسع فئات الشعب خلال الستينات والسبعينات ارتأى الملك الحسن الثاني إصدار سلسلة من قوانين الاستثمار، وخص كل قطاع بقانونه، وقد شكلت هذه القوانين آلية جوهرية من آليات تسهيل مراكمة الثروة الملكية، وكانت البداية بإصدار قانون الاستثمارات الفلاحية في صيف 1969، لإنعاش وتشجيع الاستثمار التكميلي بخصوص التجهيزات التحتية في المناطق السقوية، وبذلك استفاد كبار الملاكين العقاريين من إعفاءات متعددة وبمساعدات خاصة بالبذور والأسمدة والعلف والمعدات واقتناء رؤوس المواشي والاستفادة من مجانية ماء السقي التي تحملت مصاريفه الدولة عوضهم، وعلاوة على هذه المساعدات والتسهيلات أقر قانون الاستثمارات الفلاحية مجموعة من الإعفاءات وإلغاء الرسوم المرتبطة بالمعدات والتجهيزات الفلاحية والإعفاءات من الضرائب غير المباشرة بخصوص كافة التجهيزات بالري، وكذلك الأمر بالنسبة لرسوم التصدير.
ومن المفارقات الغربية، والتي لا يعرفها الكثير من المغاربة، أن بعض المؤسسات المالية المغربية التي كانت تبدو في الظاهر أنها أنشئت لخدمة الاقتصاد الوطني، خلقت خصيصا لتمكين أشخاص بعينهم من تطوير ثرواتهم ومراكمتها، وكذلك لخدمة الرأسمال الأجنبي والمصالح الخارجية ودون علمهم، ومن هذه المؤسسات البنك الوطني للإنماء الاقتصادي (BNDE : Banque Nationale de développement économique)، الذي ظل منذ 1962 تحت مراقبة الرأسمال الأجنبي، لاسيما مجموعة "موركن كوارانتي تروست" (Morgan Guaranty Trust)، وهي تابعة للبنك الدولي، وإلى جانبها أيضا أبناك فرنسية، ففي سنة 1973 منح البنك الوطني للإنماء الاقتصادي قروضا ضخمة لشركات أجنبية، منها "كوديير" و"ماناطيكس" التابعين لبنك عائلة "رولتشيد" بنك باريس والبلاد المنخفضة، (Banque de Paribas) " ولافارج المغرب" (قطاع الاسمنت)و "أنتيرلانس (جيليت).
ومن الأساليب الماكرة المستعملة في عهد الحسن الثاني للسطو "بطريقة قانونية" على ممتلكات الشعب في واضحة النهار، سيادة التعامل بعقلية "التفويتات بالدرهم الرمزي" كآلية من آليات تكوين الثروات ومراكمتها، وللتأكد من هذا الأمر يكفي الرجوع إلى أرشيفات إدارة الأملاك المخزنية وكذلك المحافظات على الأملاك العقارية والرهون في مختلف أنحاء المغرب للوقوف على الكثير من عقود تفويت العقارات والضيعات وأحيانا الشركات بالدرهم الرمزي، لاسيما خلال الفترة ما بين 1961 و1985.
ولم يعد خاف الآن على أحد أن مصدر الامتيازات بالمغرب هي الأسرة الملكية والدوائر المقربة جدا من الملك، علما أنه في فترة ما بين حصول المغرب على الاستقلال وبداية التسعينات، ظل أثرياء المغرب يضعون أنفسهم وما يملكون رهن إشارة الملك الراحل الحسن الثاني ولخدمته، وذلك ليزدادوا ثروة ونفوذا واستفادة أكثر من الامتيازات وتغاضي الطرف بخصوص نهبهم للثروات الوطنية وأموال وممتلكات الشعب. وبذلك يبدو أنه كلما كان أثرياء المغرب يساهمون في توسيع مدى ومجالات ثروة الملك الحسن الثاني وتسريع وتيرة تراكمها وتنوعها يساهمون في ذات الوقت في مراكمة ثروتهم الخاصة، ولعل هذه الممارسة تمثل إحدى الأوجه الحقيقية لشعار، طالما شنف آذان المغاربة خلال أزيد من ثلاثة عقود، وهو شعار "إغناء الفقير دون تفيقر الغني"، في حين أن الواقع المعيش ظل يكرس عكس ذلك، بالتمام والكمال، أي "المزيد من إثراء الأثرياء وتفقير الفقراء".

كما أن الكثيرين كانوا يعتبرون أن الهبات والمساعدات الدولية كانت تعرف طريقها إلى القطاعات والمقاصد المرصودة لها، إلا أنها من حيث لا يخطر على بال هؤلاء، ساهمت بقدر متفاوت، حسب المراحل، في مراكمة ثروة مجموعة من القائمين على الأمور ببلادنا.

وفي هذا الصدد، من المعلوم أن المغرب استفاد، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، من ملايير الدولارات من أجل تعويض زراعة "الكيف" بمنطقة الريف بمزروعات غير ممنوعة، ورغم ذلك استمر هذا النوع من الزراعة "الممنوعة قانونيا" في التوسع والانتشار حتى أضحت تهم مناطق بعيدة عن الريف. وقد عمل جاك شيراك، رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، على الدفع لتمكين المغرب من الاستفادة من مساعدات أوروبية مضاعفة القيمة، وذلك مباشرة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية.
لعبت التعليمات، لاسيما الشفوية منها، دورا حيويا، في إثراء الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية، وكانت تكفي مكالمة هاتفية في أي وقت أو بعث مرسول يحمل رسالة شفوية، لوضع اليد على أراضي فلاحية أو ضيعات أو عقار في أي مكان بالمغرب. ومن الأمور التي سهلت استعمال التعليمات الشفوية كآلة من آليات الثراء السريع التحكم في الشأن السياسي عبر قمع الحركات المنادية بالتغيير وإسكات صوتها بقوة النار والحديد.

ففي مرحلة ما بين فجر الستينات ونهاية الثمانينات عاين المغرب فبركة أحزاب، سميت آنذاك، بأحزاب "كوكوت مينوت"، ظلت تسيطر على الشأن السياسي "الرسمي" والشأن المحلي، شكلت هي كذلك آلية من آليات الإثراء غير المشروع.

كما أن من بين الطرق التي كان يستعملها الملك الراحل الحسن الثاني الاعتماد على أشخاص كواجهة، يشاركونه في جملة من المشاريع أو الصفقات أو يقتنون عقارات ومصالح باسمهم لفائدته، ومن الأشخاص الأجانب الذين كانوا يشاركون الحسن الثاني في الكثير من المشاريع والصفقات المربحة، هناك "روبير ماكسويل"، وهو رجل أعمال مغامر.

وبعد "المغربة" بصيغتيها، (السبعينات والثمانينات)، جاءت الخوصصة لتشكل كذلك آلية إضافية من آليات مراكمة الثروة وتسريع وتيرة تنميتها.

فعندما اقتنع الحسن الثاني بضرورة عولمة الاقتصاد المغربي، حتى قبل بروز مصطلح "العولمة" وشيوعه، اقتنى مجموعة "أونا"، وشرع مبكرا في إعدادها وتهييئها لجعلها شركة عابرة للحدود المغربية والمحرك الأساسي للمنظومة الاقتصادية المغربية، وقد جنى من وراء ذلك أرباحا طائلة.


مكتب التسويق والتصدير

من المكاتب التي ساهمت بشكل كبير في تنمية ثروة الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية، مكتب التسويق والتصدير.

عندما أعلن الملك عن حالة الاستثناء، قام باتخاذ جملة من الإجراءات لمراقبة تسويق المنتوجات الفلاحية المصدرة إلى الخارج؛ وبعد ثلاثة أشهر من انتفاضة مارس 1965، أحدث بظهير (مرسوم) 9 يوليوز 1965 مكتب التسويق والتصدير (OCE: Office de Commercialisation et d Exportation)، الذي عوض المكتب الشريف للصادرات (Office Chérifien des Exportations) الذي خلفته السلطات الاستعمارية منذ سنة 1932.

مع حلول سنة 1966 احتكر مكتب التسويق والتصدير، تصدير الحوامض والبواكر والخمور والمصبرات النباتية، أي ما يفوق 41 بالمائة من صادرات المغرب آنذاك، ومنذئذ عمل هذا المكتب على توجيه الزراعة المغربية لتلبية حاجيات السوق الخارجية وخدمة الصادرات، وكان يتدخل في جميع المراحل بدءا من التقرير في طبيعة المزروعات مرورا بالإنتاج والتعليب والتحويل الصناعي والنقل والتسليم بالأسواق الخارجية.

وكان لمكتب التسويق والتصدير علاقات وطيدة مع جملة من المؤسسات المالية الدولية.
هكذا تمكن هذا المكتب من جعل المغرب مجرد حقل لتوفير الحوامض والطماطم للسوق الأوروبية.
في هذه الفترة تم إعفاء كبار الملاكين من الضرائب ومن الرسوم المرتبطة بالتصدير وكذلك إعفاؤهم من الضريبة على الدخل بدءا من سنة 1984.

وبذلك كان كبار الملاكين العقاريين، ومن ضمنهم الملك، يحققون أرباحا طائلة دون أداء ولو درهم واحد لخزينة الدولة. في نفس الوقت عملت الدولة على تحرير أسعار المنتوجات المصدرة مقابل تجميد المنتوجات المرصودة للاستهلاك الداخلي، الشيء الذي لم يشجع الإنتاج المحلي، فقامت الدولة بتغطية الخصاص باللجوء إلى الأسواق الدولية لاستيراد منتوجات الاستهلاك الداخلي بأثمنة زهيدة وعرضها في الأسواق بأثمنة أخرى مكلفة، وبذلك تمكن المضاربون من تحقيق أرباح مهمة، انضافت إلى أرباحهم المرتبطة بالمنتوجات المصدّرة إلى الخارج.

هكذا ساهم مكتب التسويق والتصدير، كآلية من الآليات، في تنمية ثروات كبار الملاكين، ومن بينهم الملك والعائلة الملكية.

ومن المؤشرات الدالة على سرعة وتيرة تنمية وتراكم هذه الثروات بروز تعميق الفوارق الاجتماعية ما بين 1960 و1971، إذ جاء على لسان فتح الله ولعلو، عندما لم يكن بعدُ قد وضع على عينيه النظارات الوردية، أن مصاريف الاستهلاك الخاصة بـ 10 بالمائة من المغاربة (الأكثر غنى) ارتفعت من 25 إلى 37 بالمائة، فيما انخفضت من 3.3 بالمائة إلى 1.2 بالمائة بخصوص 10 بالمائة بالنسبة للمغاربة الأكثر فقرا بالمغرب.


من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الجديد

منذ فجر القرن التاسع عشر كتب الروائي الفرنسي المشهور "فيكتور هوجو" قائلا: "(…) يا شعوب اذهبوا إلى إفريقيا وخذوا الأرض هناك وحلوا إشكالياتكم الاجتماعية، حولوا بروليتاريتكم إلى ملاكين(…)".
وفي سنة 1903 كتب "أوجين اتيين" قائلا: "(…) هناك (أي بإفريقيا) مناجم الفوسفاط والحديد وأراضي الزراعة الخصبة وأشجار الزيتون(…) طرقا وسككا حديدية وموانئ تنتظر الخلق لفائدة صناعتنا الثقيلة ولشركاتنا ومقاولينا(…) لنؤسس مجالا واسعا، أطرافه مترامية من الخليج إلى المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط فالصحراء الكبرى، يضم تونس والجزائر والمغرب في نطاق إمبراطورية شمال إفريقيا".
هكذا كانت الانطلاقة، وقد سبق أصحاب المصارف والمقاولين فتبعتهم المدافع، للقيام بمهمة حضارية "إدخال شعوب إفريقيا إلى عصر الحضارة وتلقينهم الحرية".

احتلت فرنسا وإسبانيا المغرب، وبعد أكثر من أربعة عقود من الاستعمار، اعتبر الكثيرون سنة 1956 (الاستقلال) أن المغرب مازال غير مؤهل لممارسة الديمقراطية وغير ناضج لاعتمادها، ولذلك قامت مرحلة جديدة من الاستعمار الجديد.

لذلك منحت الدول المستعمرة الاستقلال المنقوص للمغرب، وتجلى هذا النقص بجلاء في مجالات التبعية الاقتصادية والتبعية الاستراتيجية والشعبية الثقافية والتبعية السياسية، وكلها ساهمت في تفعيل ثراء الحسن الثاني والأسرة الملكية، لاسيما مع بداية الستينات. آنذاك كانت فرنسا قد رسخت أقدام عملائها وخدامها في الخريطة السياسية والاقتصادية بالمغرب قبل رجوع الملك محمد الخامس إلى المغرب لاسترجاع عرشه.

ومنذ أن اعتلى الحسن الثاني عرش البلاد سنة 1961، انكب على تكسير شوكة المعارضة، بجميع أشكالها وعلى جميع الأصعدة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا. ومنذ تلك الفترة ترسخت بين فئات الشعب المغربي فكرة تشبيه المغرب بسجن كبير.

علما أن حصول المغرب على الاستقلال (الأعرج حسب رأي الكثيرين) كان بفضل المقاومة ونشوء جيش التحرير، الشيء الذي انعكس على العلاقات بين الوطنيين والبلاط منذ فجر الستينات، بفعل جملة من الأحداث ظلت تداعياتها فاعلة إلى حدود نهاية الثمانينيات، وعلى رأسها، الطريقة التي تَمَّ بها حل جيش التحرير بالشمال وسحق جيش التحرير بالجنوب، عندما أصبح الحسن الثاني، ولي العهد آنذاك، قائما على القوات المسلحة الملكية. وتلى ذلك القمع الدموي الذي تعرضت له انتفاضة الريف من طرف الجيش تحت قيادة الحسن الثاني، ولي العهد، ثم التصدي للمعارضة التي أخذت على عاتقها قلب النظام كسبيل لتخليص البلاد.

هذه بعض معالم بداية عهد الحسن الثاني، والتي وصفها مومن الديوري بمرحلة "الرغبة في جعل المغرب أحسن تلميذ في عين صندوق النقد الدولي".


وجاء عقد السبعينات، فتصاعدت لهجة المعارضة مرفوقة بالقمع الممنهج لكسرها، ولم يكن أمام الحسن الثاني أي خيار إلا الخضوع لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتظاهر باعتماد "الثورة الليبرالية" تحت شعار "إغناء الفقير دون تفقير الأثرياء"، آنذاك كانت كمشة من المغاربة قد استحوذت على أكثر من 90 بالمائة من الثروات الوطنية تاركة بقية الشعب تترنح في أجواء الفقر والحرمان.
وقد رأى مجموعة من المحللين الاقتصاديين، في المسار الاقتصادي الذي سار عليه المغرب، أنه ظل محكوما بضرورة الانصياع للخارج والتبعية له. وفي هذا الصدد اعتبر البعض منهم أن الملك الراحل الحسن الثاني ظل سائرا على هذا الدرب، مما أدى في نهاية المطاف إلى بيع ثروات البلاد ومواردها البشرية وموقعها الاستراتيجي، بعد أن غرقت البلاد في مستنقع الديون الخارجية وبعد أن ارتبطت منظومتنا الاقتصادية بالرأسمال الأجنبي.

وبذلك اعتبر البعض أن ثراء الملك الحسن الثاني، جاء، في جزء مهم منه، نتيجة لهذا الارتباط (ارتباط اقتصادنا بالمصالح الأجنبية).


ألم يكن الملك الراحل الحسن الثاني، الملاك العقاري والمقاول والمالي والمصرفي الأول بالمغرب؟

تنمية الثروة الملكية عبر الخوصصة والمساهمات المتنوعة. فيما بين أبريل ودجنبر 1990، بمناسبة الجدال والحوار بخصوص الإعداد للقانون الذي سيعرف بعد ذلك باسم "قانون الخوصصة" المرخص للحكومة ببيع 112 مؤسسة وشركة عمومية (منها 4 من أكبر الأبناك، هولدينغ مالي، 3 شركات فلاحية، 10 معامل لصناعة السكر، معمل تركيب السيارات، 7 شركات بترولية و37 مؤسسة فندقية)، أجمع المشاركون على تسطير ملاحظة أقلقت أغلبهم، وهي تواجد مجموعة أخطبوطية في قلب المنظومة الاقتصادية المغربية، إنها مجموعة "أومنيوم شمال إفريقيا" والتي كان الملك الراحل الحسن الثاني يملك وقتئذ أكبر جزء من رأسمالها.

فعلا، خلال عقد من الزمن، أصبحت مجموعة "أونا" تشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني وركيزته الأساسية، علما أنها كانت في البداية مجرد نواة تدور في فلك بنك باريس والبلاد المنخفضة، لكنها بدأت تتوسع بفعل ارتفاعات متتالية لرأسمالها وبفعل امتصاصها لجملة من الوحدات والمجموعات منها "كوجيسبار" (COGESPAR) و"سيهام" (SIHAM)؛ وارتكازا على "استراتيجية هجومية" في مجال الأعمال، تم التخطيط بجميع الوسائل لوضع اليد على مجموعة من الشركات العمومية، كما تم رسم خطة لتجميع ومركزة بعض الأنشطة وتوزيع أخرى.

وبذلك تمكنت "أونا"، أن تصبح أضخم هولدينغ مالي بالمغرب منذ بداية الثمانينات، حيث تأكد بجلاء توسعها الأخطبوطي، الشيء الذي جعلها تحقق أرباحا لم يسبق أن تمكنت أية مجموعة من تحقيقها من قبل.
لقد قفز رقم معاملاتها من مليارين و600 مليون درهم سنة 1982 إلى 9 مليارات من الدراهم سنة 1988، كما أن أرباحها قد تضاعفت مرتين فيما بين سنة 1987 و1988، حيث قفزت مما يناهز 223 مليون درهم إلى 448 مليون درهم، وارتفعت مواردها الخاصة بنسبة 62 بالمائة وبلغت قيمتها المضافة مليارين من الدراهم. ومنذئذ لم يتوقف تطورها.

في سنة 1990 بلغ عدد الأشخاص الذين تشغلهم أكثر من 15 ألف، وكانت تملك آنذاك 43 شركة بالمغرب وتراقب بطرق غير مباشرة على أقل تقدير 86 شركة في مختلف القطاعات والأنشطة المربحة. كل هذه الشركات التابعة لمجموعة "أونا" تحتل مواقع استراتيجية في النسيج الاقتصادي الوطني، وقد تم توزيعها كالتالي:

- 10 وحدات في قطاع الصناعات الغذائية والفلاحية وتمثل ما نسبته 20 بالمائة من القيمة المضافة لهذا القطاع، منها 3 وحدات لصناعة الحليب ومشتقاته و3 معامل لصناعة السكر و3 وحدات لصناعة الزيوت.
- 6 شركات منجمية.

- شركتان (2) في قطاع النقل.

- شركتان لتركيب السيارات.

- 3 شركات في قطاع النسيج.

- شركتان في قطاع الصناعة الكيماوية.

- شركة للصيد البحري.

- مطبعة.

- 6 شركات في قطاع الخدمات.

- شركة عقارية ضخمة بحوزتها رصيد عقاري حضري هائل.

- شركتان في قطاع السياحة.

- شركتان في قطاع التأمينات.

- 3 أبناك.

- شركة كبيرة للدراسات والاستشارات المالية.

- محطة تلفزية.

- صحيفة.

- مركز لدراسة التوقعات.

- سلسلة من الأسواق الضخمة (قطاع التوزيع والتجارة)


وشركات أخرى من الصعب تعيينها اعتبارا لتوسع أطراف الأخطبوط الذي تولد من نواة "أونا" الأولى على مر السنين، لاسيما أن درجة الشفافية المالية المعتمدة بالمغرب مازالت غير كافية للتمكن من الإطلاع على كل المعلومات، ونظرا لأن أبواب الإدارات والمؤسسات العمومية مازالت موصدة في وجه الباحثين المستقلين غير الموالين للدولة والمتعاملين معها.

وزادت مجموعة "أونا" من تنمية قوتها الأخطبوطية بفعل ابتلاعها سنة 1988 للبنك التجاري المغربي (BCM)، وبالتالي مراقبة كل الوحدات التابعة له.

ومع تفويت 2.5 بالمائة من رأسمالها إلى البنك الوطني لباريس (BNP)، تمكنت المجموعة من المساهمة بنسبة 13 بالمائة في رأسمال البنك المغربي للتجارة والصناعة (BMCI). ومكنها هذا الرصيد المالي من وضع قدمها في الأسواق العالمية وولوج بورصة باريس، وبفضل هذا الإنجاز استطاعت المجموعة الملكية في عهد الحسن الثاني المساهمة في رأسمال بنك باريس والبلاد المنخفضة (Paribas) ومجموعة "بولوري" (Bolloré) و"التأمينات العامة لفرنسا" (AGF) وشركة بوجو (Peugeot) و"نادي البحر الأبيض المتوسط" (Club Méditerranien).

ومنذئذ اهتمت مجموعة الحسن الثاني بقطاع السياحة أكثر من السابق، حيث برمجت آنذاك إلى حدود 1993 استثمارا سياحيا تفوق قيمته 5 ملايير درهم.

كما أن لمجموعة "أونا" مساهمات أخرى، منها 10 بالمائة في شركة "أسفار هافاس" و10 بالمائة في "دينرز كلوب" (Diners Club) وشركات النقل وشركات استثمار عالمية، كما ساهمت إلى جانب البنك الوطني لباريس في مشاريع صناعية (قطاع الصناعات الغذائية) بفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، وهذا ما جاء في جملة من المقالات نشرتها مجلة "مغرب – مشرق" في أبريل/ يونيو 1990.
في هذه الفترة كان صهر الملك الراحل الحسن الثاني، فؤاد الفيلالي يضطلع بمهمة نائب الرئيس المدير العام للمجموعة.

ومقارنة مع المجموعات المالية الخاصة بالمغرب ظلت المجموعة الملكية "أونا" تحتل المرتبة الأولى بمسافة بعيدة عن المجموعات التي تليها، كمجموعة مولاي علي الكتاني التي كان رصيدها آنذاك (بداية التسعينات) بنكا و32 شركة وشغيلة يناهز عددها 10 ألف شخص، وتأتي بعدها مجموعة كريم العمراني، الوزير الأول السابق، بامتلاكها لبنك و29 شركة.

علما أنه هناك عرفا ظل قائما على الدوام، وهو بمثابة "قانون اقتصادي" متعارف عليه بين كبار أثرياء المغرب، مفاده أنه لا يصح أن يكون بالمغرب شخص أثرى وأغنى من الملك، وبذلك كان من الضروري أن تكون ثروة الملك في عهد الحسن الثاني أكبر ثروة موجودة بالمغرب، وبالتالي استفادته أكثر من غيره وقبل أي كان من الآليات المتوفرة لحيازة الثروة ومراكمتها وتنميتها، سواء أمر بذلك أم لم يأمر به، ما دام أن القاعدة هي عدم جواز وقبول منافسته في أي مجال من المجالات ولاسيما فيما يخص الثروة.

"أونا".. بدأت صغيرة جدا

بفضل التهامي الكلاوي، باشا مراكش وعميل الاستعمار الأول وبدون منازع، تمكن الفرنسي "جون إيبينات" من الاستحواذ على مناجم المغرب وخلق شركة "أومنيوم شمال إفريقيا" سنة 1924 بمساهمة بنك "باريبا" لتدبيرها واستغلالها وجني أرباحها، وبعد سنوات من إنشائها أصبح الملك الراحل الحسن الثاني (ولي العهد وقتئذ) رئيسا مديرا عاما لشركة "سماك" (SMAG)، وهي شركة كانت تابعة لـ "أونا".
أصبح الحسن الثاني، وبطلب من فرنسا، القائم على "أونا" بعد أن مركزت كل المناجم المربحة بالمغرب، لاسيما الذهب والفضة والنحاس والزنك والفوسفاط، إذ أن نسبة 70 بالمائة من أرباحها كانت تذهب إلى خزائن العائلة الملكية.

تطورت "أونا" وتوسعت أنشطتها بعد أن وضعت يدها على الصناعات الغذائية والفلاحية، وأصبحت تراقب 92 بالمائة من المواد الدسمة (الزيوت، الزبدة، الحليب)، و60 بالمائة من السكر، ثم عملت على اكتساح قطاعات جديدة، منها السياحة والتأمينات وتركيب السيارات والنقل ومواد التجميل (Cosmétique) والعقار وغيرها، وبذلك لم يفلت أي نشاط من الأنشطة الاقتصادية ذات الربح العالي من سيطرتها.

كما أن "أونا" تمكنت، في عهد الحسن الثاني، من امتلاك 40 بالمائة من رأسمال ثلاثة أبناك تعتبر من كبريات المصارف بالمغرب، وبذلك أضحى من الضروري على الراغبين في الاستثمار بالمغرب الحصول على الموافقة الشخصية للملك، الفاعل الاقتصادي الأول بالبلاد.
آنذاك بدأ القائمون على الأمور يقدمون مجموعة "أونا" كمحرك من شأنه أن يقود البلاد إلى التنمية والازدهار، وموازاة مع ذلك، كانت ثروات الملك والعائلة الملكية تنمو بسرعة كبيرة، وكذلك الأمر بخصوص الديون الخارجية التي وصلت حينئذ إلى 22 مليار دولار أمريكي، وبلغ يأس الكثير من المغاربة درجة لم يسبق لها مثيل.

ففي المغرب 1992 تم إحصاء 9.2 مليون شخص يعيش تحت خط الفقر و11.2 مليون لا يعرف الكتابة ولا القراءة، هذا ما أقره تقرير الأمم المتحدة للتنمية في مارس 1992.

حسب جريدة "لوموند" الفرنسية، بلغ رقم معاملات مجموعة "أونا" سنة 1991 ما يناهز 8.7 مليار فرنك فرنسي و351 مليون فرنك فرنسي كأرباح. آنذاك انضاف إلى رصيد المجموعة 50.20 بالمائة من رأسمال الشركة الفرنسية "أوبتورك" (OPTORG) الناشطة في التوزيع والصيانة التقنية.
ومن خلال "سيجير" أصبحت مجموعة "أونا" الدرع الاقتصادي للحسن الثاني والبلاط. وبذلك تمكن من جعل مجموعته المجموعة الاقتصادية والاستثمارية الأولى، بدون منازع، بالمغرب.


الأراضي المسترجعة

من الأمور التي لم يستسغها العديد من الفلاحين والكثير من القبائل، قضية مآل الأراضي التي اغتصبها الاستعمار من أبائهم وأجدادهم، والتي رغم استرجاعها من طرف الدولة بعد الاستقلال لم ترد لأصحابها الأصليين، وإنما تم تفويتها إلى جماعة من المحظوظين والمقربين ومسؤولين كبار في الجيش، وذلك بعد أن وضع القصر يده على ما أراد منها. وهذا أمر ظل عسير الفهم بالنسبة للساكنة القروية، لاسيما الفلاحين الصغار والمعدمين، في جميع أنحاء البلاد.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تجاوزه إلى حد الترامي على بعض الأراضي التي بحوزتهم أو تفعيل مسطرة نزع الملكية قصد المنفعة العامة، كما يقال، لتجريدهم من حق ملكيتها وإجبارهم على قبول تعويض تحدده لجنة الإدارة أو الجهاز القضائي بعد مرور سنوات عديدة، الشيء الذي أدى إلى بروز حركات احتجاجية ساهم فيها فلاحون وأحيانا قبائل برمتها، صغيرها وكبيرها، نساؤها ورجالها، كهولها وشبابها، وأغلبها ووجهت بالقمع الشرس، وهذا ما حدث عندما انتفض فلاحو قبيلة أولاد سعيد بضواحي سطات للمطالبة باسترداد أراضيهم التي كانت السلطات الاستعمارية قد نزعتها منهم ومن آبائهم بقوة الحديد والنار، منحت بجرة قلم، بعد استرجاعها، في نهاية الستينات للمقربين من البلاط.
وكذلك الأمر بالنسبة لأبناء قبيلة أولاد عياد بمنطقة بني ملال الذين قاموا، قومة الرجل الواحد، للتصدي لتحويل مياه الري إلى ضيعة أحد الشخصيات الوازنة المستفيد من الأراضي المسترجعة على حساب حق الفلاحين في مياه السقي.

فمنذ سنة 1956، بعد حصول المغرب على الاستقلال، آلت مجموعة الأراضي المسترجعة أو الأراضي المصادرة من الخونة (لاسيما أملاك التهامي الكلاوي، باشا مراكش وعميل الاستعمار) إلى الملك وبعض المقربين منه ومجموعة من المحظوظين عوض إرجاع الأولى لأصحابها الأصليين. وبعد مرور سنوات قليلة من تربعه على العرش تم تصنيف الملك الراحل الحسن الثاني كأحد أكبر أغنياء العالم العشرة الأوائل.

وفي بداية الستينات، في وقت بدأ فيه الملاكون العقاريون الكبار يستحوذون على الأراضي المسترجعة من الأشخاص الذاتيين الأجانب (المعمرين الفرنسيين الخواص)، أضحت العائلة الملكية بسرعة من أكبر الملاكين العقاريين عبر استخدام وتفعيل مسطرة تفويتها للخواص، غالبا بأثمنة زهيدة جدا لا ترقى حتى للحد الأدنى المتعامل به في السوق العقارية، أي تفويت الأراضي بأقل من قيمتها الآنية بكثير، وأحيانا كثيرة بأثمنة رمزية. ومن الإدارات التي ساهمت في تفعيل آليات التفويت السريع، وزارتي الفلاحة والمالية (الأملاك المخزنية)، هذا قبل اعتماد ما سمي بـ "المغربة" سنة 1973 ثم في الثمانينات.


الديون الخارجية آلية من آليات تكوين الثروة ومراكمتها

قد يبدو من الغريب القول بأن الديون الخارجية ساهمت في تكوين ومراكمة ثورة الحسن الثاني والعائلة الملكية، إلا أن جزءا كبيرا ضخ بالمنظومة الاقتصادية، لاسيما في قطاعات تعرف حضورا قويا للمصالح الأسرة الملكية.

وإذا كانت الديون الخارجية آلية من آليات تنمية الثروات الملكية والمحيطين بالبلاط فإنها كرست نقيض النتائج التي تم الإعلان عنها رسميا، حيث أنها مكنت من رفع متوسط الواردات بما نسبته 16.9 بالمائة في السنة، في حين ساهمت في رفع الصادرات بنسبة 8.1 بالمائة فقط سنويا، علما أنه، لم تستفد المنظومة الاقتصادية الوطنية من العملة الصعبة، إذ أن اقتناء المعدات والتجهيزات الفلاحية من الخارج جعلت مداخيلها تُروّج بالأسواق الأجنبية، في وقت كان من المفروض أن تساهم الصادرات في تنمية مباشرة وسريعة للاقتصاد الوطني.

وبذلك تكون الديون الخارجية قد ساعدت البعض، بشكل كبير، على الإثراء السريع، وشكلت آلية من آلياته، علما أن تلك القروض رهنت مستقبل أجيال من المغاربة إلى حد إيصال المغرب إلى وضعية "السكتة القلبية" أكثر من مرة، وذلك فيما بين 1965 و1990.

علما أن القروض الخارجية لعبت دورا جوهريا في ضرب سياسة الأمن الغذائي التي كان المغرب قد اعتمدها، ووظف استثمارات طائلة في القطاع الفلاحي لبلوغ ضمان أمنه الغذائي عندما كان الحديث جاريا في العالم حول "السلاح الغذائي"، حيث أنه منذ بداية السبعينات انقطع أدنى ارتباط بين الإنتاج الفلاحي العصري وحاجيات الاستهلاك الداخلي ومتطلبات السوق الوطني. كما عرفت واردات مواد الاستهلاك الحيوية توسعا وارتفاعا غير مسبوق ببلادنا.

آنذاك اتضح بجلاء أن الفلاحة المغربية تنتج للخارج وتعمل لتلبية حاجيات ومتطلبات الأجانب، ويعتمد المغرب على الأسواق الخارجية لتلبية حاجيات الاستهلاك الداخلي، وحصل ذلك في أوج الترويج لخطات "ضرورة وحيوية تحقيق الأمن الغذائي".


"المغربة"
بعد الانقلاب الأول (الصخيرات 1971) قدم الملك الراحل الحسن الثاني نزرا من "النقد الذاتي" والكثير من الوعود في خطاب 4 غشت 1971، والذي جاء فيه… "(…) يمكن القول إن المغرب كان حقا كنزا(…) لكن بعض المغامرين سولت لهم أنفسهم التعدي على هذا الكنز وحاولوا الاستيلاء عليه(…) أرادوا الاستيلاء على السلطة والسطو على الممتلكات والأشخاص(…) لقد صرحنا مرارا أن سياستنا الاقتصادية والاجتماعية استهدفت إغناء الفقير دون تفقير الغني. لكن مع الأسف الشديد، لأسباب لا داعي للرجوع إليها، لاحظنا أنه بقدر ما أن الفقير لم يغتن، زاد الغني ثراءا(…) وهذا وضع غير مسموح به(…) وعلى الحكومة المقبلة أن تعمل كل ما في وسعها لإعادة توزيع الدخل الوطني توزيعا عادلا(…)".
بعد هذا الخطاب بيومين عين الحسن الثاني، يوم 6 غشت 1971، كريم العمراني وزيرا أول لطمأنة فرنسا والرأسمال الأجنبي (علما أنه كان وزيرا للاقتصاد في الحكومة السابقة)، وللسهر على تفعيل "المغربة" التي استهدفت منذ 1972 جزءا كبير من الأنشطة الاقتصادية والأراضي المسترجعة التي كانت بيد الخواص الأجانب.

وبفضل هذه "المغربة" تمكن الحسن الثاني من "إرشاء" كبار البرجوازيين وكبار الضباط والمقربين للبلاط، وكذلك تنمية الثروة الملكية، بعد المحاولة الانقلابية الثانية (16 غشت 1972).


وللمخدرات علاقة كذلك

في كتابه "18 سنة من العزلة: تازمامارات" الصادر سنة 1993، أزاح "علي بوريقات" الستار عن تعاون فرنسي – مغربي في مجال تهريب المخدرات، وفي هذا الصدد برز اسم "شارل باسكوا" وزير الداخلية الفرنسي سابقا.

ظلت إشكالية المخدرات حاضرة بقوة كلما نقبنا في موضوع طرق الإثراء السريع في مغرب السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات… عائلات ثرية تاريخيا وأخرى حديثة الثراء ارتبط اسمها أو نشاط أحد أفرادها بشبكات تهريب المخدرات والاتجار بها.

وفي هذا المضمار، سبق لجريدة "لوموند" الفرنسية أن نشرت تقريرا في الموضوع تحت عنوان: "المغرب، المُصدِّر العالمي الأول للحشيش" مرفوقا بعنوان فرعي: "تقرير سري يتهم مقربين من الملك الحسن الثاني"، علما أن كاتب المقال اعتمد على بحث سري أنجزه المرصد الجيوسياسي للمخدرات (OGD: Observatoire géopolitique des drogues).

وقبل أن يضر تقريره السري رصد الأنشطة المرتبطة بالمخدرات على امتداد سنوات وخرج بخلاصات بخصوص إنتاج الحشيش والمساحات المرصودة لزراعة "الكيف"، وذلك قبل إصدار حكمه الأخير: "(…) المغرب، المُصدِّر العالمي الأول للحشيش والممون الأول لأوروبا…".

تضمن التقرير الأصلي أسماء وازنة بعينها من الدائرة المقربة جدا من الملك الراحل الحسن الثاني وبعض الوزراء السابقين المتورطين في تهريب المخدرات أو المشاركة فيه، إلا أن بيروقراطيي أوروبا (لاسيما الفرنسيين منهم) التمسوا بسرعة من معدي التقرير سحب الأسماء الوازنة التي تضمنها وعدم تعيين المتورطين.

من القضايا الغريبة التي أثارت العديد من التساؤلات، موقف "جاك شيراك" و"شارل باسكوا" وأجهزة مكافحة المخدرات الفرنسية اتجاه قرار السلطات الهولندية، آنذاك، بخصوص شرعنة بيع الحشيش بالأراضي المنخفضة.

فمباشرة بعد العودة من جولته الإفريقية، التي بدأها بالتوجه إلى المغرب، هاجم "شيراك" السلطات الهولندية على قرارها بخصوص اعتماد سياسة التسامح إزاء ترويج الحشيش بترابها. وقد علّق الكثير من المحللين على الموقف الفرنسي، بكونه أملاه ضرب مصالح رؤوس كبيرة جدا لها علاقة بتهريب المخدرات وتحصد من وراء هذا النشاط أموالا طائلة كانت مدعوة إلى التقلص بفعل ما سموه بـ "المنافسة الهولندية".


الحسن الثاني الأول على رأس الملاكين العقاريين

تمكن الحسن الثاني، في بداية عهده، من وضع يده على خُمس (20 بالمائة من) مساحة الأراضي القابلة للزراعة والأكثر خصوبة بالبلاد في مختلف المناطق الفلاحية بعد رجوع المعمرين الفرنسيين إلى بلادهم.
ويقول مومن الديوري، إن مجموعة من القبائل حاولت المطالبة باسترجاع أراضيها التي سلبها منها الاستعمار بقوة السلاح والنار، إلا أن ممثليها والمتكلمين باسمها لم يجرؤوا على معاكسة أمير المؤمنين بهذا الخصوص.

ظلت ضيعات الملك الراحل الحسن الثاني أحسن وأحدث الضيعات المتواجدة بالمغرب، وكل منتوجاتها مرصودة للأسواق الخارجية، وبالتالي كل الاتفاقيات التي أبرمتها الدولة المغربية مع الدول الأجنبية صبّت مباشرة في اتجاه المساهمة بطريقة مباشرة في تنمية ثروة الملك والعائلة الملكية.
بدأت آليات الاستحواذ على الأراضي الزراعية بعد أن وضعت الدولة يدها على أراضي المعمرين، وقد تزامن ذلك مع التصميم الخماسي 1960 -1964 وحلول الأزمة المالية الخانقة في 1964 – 1965 وتوقيع الملك، يوم 25 يونيو 1964، اتفاقية مع صندوق النقد الدولي للاستفادة من تسهيلات تهم ما قدره 1.3 مليون دولار أمريكي، وكانت هي المرة الأولى التي يستنجد فيها المغرب بصندوق النقد والبنك الدوليين (BM, FMI).

وقتئذ كانت مناسبة سانحة لخبرائهما لإعداد تقرير تمحيصي عن المنظومة الاقتصادية المغربية.
هذا التقرير الذي أقر بالطبيعة الفلاحية للاقتصاد الوطني وبضرورة اعتماد هذا التوجه، مما ساهم في بلورة سياسة فلاحية من أجل دعم الملاكين الكبار على حساب باقي الفلاحين وساكنة العالم القروي، وتمكينهم من الاستحواذ بطرق مختلفة على أراضي صغار الفلاحين والسلالات الاثنية (أراضي الجموع)، وفي هذه الفترة تم الاستيلاء على الكثير من هذه الأراضي مما أجج غضب الساكنة القروية وأشعل فتيل عدة انتفاضات فلاحية، ومنها انتفاضة "أولاد خليفة" بالغرب وغيرها في جهات متعددة من المغرب.
وكان آنذاك قد تم اعتماد سياسة السدود لتوجيه الفلاحة المغربية نحو السوق الخارجية بغية ضمان الحصول على القدر الكافي من العملة الصعبة لإرجاع الديون.

وحسب إحدى مقالات "ميشيل مولر"، كان الملك الراحل الحسن الثاني يعتبر أحد كبار الملاكين للعقارات بمدينة نيويورك الأمريكية.


أجواء مرحلة مراكمة الثروة الملكية بالمغرب

تميزت مرحلة نشأة ثروة الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية وسيرورة مراكمتها السريعة بجو امتاز عموما بالقمع الممنهج والتصدي بقوة لكل أنواع الاحتجاج والتنديد والمطالبة بالحقوق فمنذ 1966 توسعت رقعة احتجاج المثقفين والطلبة والتلاميذ إلى أن حدث الانفجار الاجتماعي سنة 1972.
ففي سنة 1968 شن 7000 منجمي بمناجم خريبكة إضرابا عاما.


وفي 4 مايو 1970 أعلن طلبة الرباط إضرابا عاما دام شهرا بفضل مساندة ودعم الأحياء الشعبية، الشيء الذي أدى بالملك الراحل الحسن الثاني إلى منح دستور جديد قيل إنه دستور "ديمقراطي اجتماعي".
وفي شهر نوفمبر 1970 قدمت الدولة على نزع ملكية أرض بتمارة لفائدة شركة "اسمنت تمارة" التي تعتبر العائلة الملكية من المساهمين في رأسمالها، وقد تضرر من عملية نزع الملكية هذه ما يناهز 10 ألف فلاح. وكذلك الشأن بخصوص "كينك رانش" (king Ranch) بضواحي مدينة مكناس، حيث تم تفويت 13 ألف و500 هكتار للعائلة الملكية من أجل إقامة ضيعة كبيرة لتطوير تربية المواشي الصناعية.
وفيما بين نوفمبر 1970 و1971 انفجرت عدة انتفاضات من طرف الفلاحين في مناطق مختلفة منها الغرب وسوس والحوز.. وكلها ووجهت بالقمع الشرس. ففي منطقة الغرب (القنيطرة)، على سبيل المثال لا الحصر، انتفض سكان "أولاد خليفة"، بعد أن قام أحد المعمرين الفرنسيين ببيع الأراضي التي كانت في ملكه، استنادا لترخيص مسلم من طرف وزارة الفلاحة، إلى مجموعة من الفلاحين المتوسطين من أبناء المنطقة، إلا أنه بعد مدة قصيرة عمدت السلطات على نزع تلك الأراضي من أصحابها الجدد مقابل مبالغ مالية حددتها، وذلك بغرض تفويتها لاثنين من كبار الملاكين العقاريين، قيل آنذاك، إن أحدهما أراد اقتناءها باسمه، كواجهة، لفائدة العائلة الملكية، وبعد أن راجت القضية أمام المحكمة وتم عرضها على العامل وكذلك على أنظار الديوان الملكي، لم يتمكن أصحاب الأرض من وضع يدهم عليها، آنذاك عمل الشخصان اللذان آلت إليهما تلك الأراضي على حرثها، فأحضرا الجرارات، مما أجج غضب أفراد قبيلة أولاد خليفة فمنعوها من التحرك بعد أن اعتصموا أمامها وأوقفوها، فتدخل رجال الدرك الملكي وأطلقوا النار عليهم دون اعتبار للنساء والأطفال الصغار، وكانت الحصيلة 7 قتلى وعشرات الجرحى واعتقالات بالجملة.
وفي 10 يوليوز 1970، هجم تلاميذ هرمومو على قصر الصخيرات، وكان الانقلاب الأول الذي زعزع كيان الملكية لأول مرة في المغرب بعد الاستقلال.

عرفت فترة ما بين نهاية 1971 وبداية 1972 إضرابا واسعا لمنجميي فوسفاط خريبكة وعمال النسيج بالدار البيضاء والرباط وفاس…

ومع حلول سنة 1972 تصدى التلاميذ لإصلاح نظام الباكالوريا بالإعلان عن الإضراب موازاة مع تنظيم مظاهرات صاخبة في مختلف المدن دامت ثلاثة أشهر. تصاعدت وتيرة القمع واتسعت دوائر الاعتقالات همت الطلبة والأساتذة ومجموعة من المثقفين، على إثرها تناسلت مظاهرات أكثر صخبا واتساعا للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والمختطفين، فكانت بداية مسلسل التصدي لليسار المتطرف.
وفي مارس 1972، تم طرد 8500 طالب من الجامعة من أصل 13 ألف. آنذاك قام الملك الراحل الحسن الثاني بمنح دستور ثالث الذي قيل إنه "ديمقراطي واجتماعي"، كما حدث بمناسبة منحه الدستور الثاني.
وفي 16 غشت 1972، كانت المحاولة الانقلابية الثانية بعد الهجوم على الطائرة الملكية العائدة من الديار الفرنسية.
وفي مارس 1973 انطلقت أحداث خنيفرة وكلميمة سعيا وراء إشعال فتيلة الانتفاضة الشعبية ضد الملكية.
وفي غضون سنة 1973 تمكن صحراويون من احتلال مركز حراسة عسكري إسباني، فكانت انطلاقة حركة البوليساريو المسلحة.

وبعد سنتين أعلن الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء، وفي 14 نوفمبر 1975 وقع المغرب وموريتانيا وإسبانيا على الاتفاق الثلاثي الرامي إلى توزيع الصحراء.


تنمية الثروة الملكية على حساب الإفلاس الاجتماعي

إن سيرورة مراكمة الثروة الملكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني تزامنت مع سيرورة الإفلاس الاقتصادي والاجتماعي.

يجمع أغلب المحللين الاقتصاديين على أن السياسات التي اعتمدها الراحل الحسن الثاني أدت إلى شبه إفلاس للوضعية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب من سنة 1961 إلى سنة 1999، إذ أن البؤس أضحى نصيب الكثير من المغاربة، والغنى والترف الفاحش من نصيب كمشة من المحظوظين والمقربين.
كما أن الفساد والرشوة واستغلال النفوذ لم تعد مجرد معضلات اجتماعية استشرت بقوة في النسيج المجتمعي، وإنما أضحت آلية من آليات التسيير والتدبير ومراكمة الثروات الطائلة. وما هذه المظاهر إلا تعبيرات وانعكاسات لنهج معين لحكم لم يتوقف على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، رغم كل الوعود المصرح بها في الخطابات الرسمية، في إقامة ولو درجة حد أدنى من العدل الاجتماعي كان من شأنه أن يقلص الفوارق الاجتماعية الصارخة ويحد من فداحة الهوة السحيقة التي ظلت تفصل بين الكمشة الأكثر ثراء المستحوذة على مصادر الثروة والسواد الأعظم من المغاربة الذين ظلوا يعيشون أوضاعا صعبة ما فتئت تتردى مع مرور الوقت. وكانت النتيجة هي احتلال المغرب للمراتب المتأخرة بين الدول، وأكثر من 10 ملايين مواطن يرزحون تحت عتبة الفقر المدقع وأزيد من ثلاثة أرباع ساكنة البلاد لا يحصلون على الحد الأدنى للأجور، المعتمد بالمغرب، وأكثر من 85 بالمائة ظلوا محرومين من التغطية الاجتماعية والصحية في العهد الحسني، وبقيت الأجور تتفاوت ما بين 1 وألف، وما يناهز 40 بالمائة من الشباب يرزحون تحت وطأة البطالة. هذه هي الوضعية التي ظلت ترافق مراكمة الثروات الطائلة بالمغرب.

"قصة" تداولتها بعض الصحف الأمريكية

قصة قد لا تخلو من بعض الغرابة، تداولتها بعض الصحف الأمريكية قبل الانقلاب العسكري الأول (الصخيرات صيف 1971)، وهي قصة "المهمة الخاصة" التي قيل إنها كانت وراء تفكير المذبوح في قلب النظام الملكي بواسطة انقلاب عسكري على الحسن الثاني يوم احتفاله بعيد ميلاده.
فقبل انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971 بشهور معدودة، كلف الملك الراحل الحسن الثاني المذبوح بمهمة سرية وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية تحت غطاء تهييء زيارة ملكية خاصة لأمريكا، كان من المقرر أن يقوم بها الملك في الأسبوع الأخير من شهر أبريل من سنة 1971. في حين كانت المهمة الحقيقية هي البحث والتقصي عن أسباب غضب حكومة واشنطن من المغرب آنذاك.
وحسب مجلة "اكسبريس" الفرنسية تمكن المذبوح من اكتشاف الأسباب الكامنة وراء الغضب الأمريكي بسهولة كبيرة، إذ علم أن الأمر يتعلق برسالة وجهها المدير العام لشركة "باناميريكان إيرويز" إلى صديقه "وليام روجس" كاتب الدولة بالبيت الأبيض، مرفوقة بنسخة من كتابات واردة من المغرب وتهم قطعة أرضية كائنة بالعاصمة الاقتصادية، الدار البيضاء، كانت الشركة الأمريكية المذكورة أعلاه ترغب في اقتنائها لتشييد فندق راق عليها.

وفي إحدى تلك الرسائل التي توصل بها كاتب الدولة الأمريكي، أضاف أحد المقربين للقصر والقريبين من دائرة الملك، بخط يده العبارة التالية: "لاستكمال صفقة اقتناء القطعة الأرضية المعنية وجب دفع كذلك 600 مليون…".

إضافة لهذا، اكتشف المذبوح، وهو بالديار الأمريكية، وجود شبكة منظمة لتهريب المعادن النفيسة، تحت إشراف شخصيات مغربية وازنة، بعض عناصرها من ضمن الدائرة المقربة للملك الحسن الثاني آنذاك.
وبعد فشل انقلاب الصخيرات 1971، قيل إن هذين الاكتشافين هما اللذان دفعا المذبوح للإعداد للانقلاب بسرعة. ولعل هذه النازلة، من شأنها تبيان أن آليات مراكمة الثروة في عهد الحسن الثاني لم تقتصر على الطرق المشروعة التي تخولها القوانين الصادرة لهذا الغرض، وإنما تجاوزتها إلى استخدام طرق غير مشروعة يعاقب عليها القانون الجاري به العمل.

هناك 6 تعليقات:

  1. 3 - المهاجر السبت 23 مارس 2013 -
    كانت المواجهات قد انتهت، بحصيلة قتلى يقول العراقي أنها قد تكون قد وصلت إلى 5000، ومحمد الحبابي إلى 1500، والدولة إلى بعض العشرات.
    وما خفى كان اعظم. التعذيب الذي تعرض له المعتقلون لاوجود له في اي بقعة من بقاع العالم. كم من بريء سجن وعذب. كم من من طالب حرم من لدراسة وكم و كم وكم ... ولازلت فئة كبيرة من الشعب تعيش هاذه الظروف في وقتنا الحالي. لااحد يتكلم عنها. اما اذا كنت ابن فلان افعل ما شئت ولا تخف.

    ردحذف
  2. 5 - sifaw zouba السبت 23 مارس 2013 -
    تصحيح المعطيات . أول إنتفاضة وقعت في المغرب بعد الاستعمار كانت سنة 1958 وبالضبطة في منطقة الريف والتي راح ضحيتها الالاف من المغاربة ، الأنتفاضة التي طالبت بالكرامة والحكم الرشيد . إلا أن غدر النظام ابى إلا ان يهاجم الشعب الاعزل بالطائرات و مختلف الاسلحة ، الانتفاضة التي عمت كل ارجاء الريف قبلت بالجيش الظالم الذي ارتكب ابشع جرائم في تاريخ المغرب المعاصر . قتل الاطفال و اغتصب النساء و قتل الشيوخ ،،، كان ذلك سنة 1958ـ1959 المعروف بعام - إكبان- نسبة لغطاء الرأس الذي يضعه الجيش

    ردحذف
  3. 19 - تلميد مجتهد ومعلمين متابرين السبت 23 مارس 2013 -
    عشت هاذه لمرحلة كنا ندرس بمدرسة الحسن الثاني اليوم تسمى بابو القاسم شابي بقريت لجماعة او سباتا كان مدير فرنسي عنده سيارت بوجو 203 سوذاء حين خروجومن لمدرسة هاجموه تلاميد تانويات قلبو سيارته وحرقوه داخلها وجاؤ عسكر زيان كيضربنا بالقرطاس وطائرات هلكبتري ترشنا بمادت كواتشو حمراء حارقة فوق رؤسنا ب6امتار كنا ندخل بمايسما بدريبا وننام على بطوننا لكي لايرون عسكرزيان لانا دريبا بهادروج رصيف شكل تسلسلي تنازلي عرض مترين ونصف على متر ونصف كانا نختبئ خمسة تلاميد لان ابواب منازل كانت مقفلة في وجهنا خوفا من هجوم مباغت سارت الاضرابات تقريبا اسبوع كسرت زجاج ونوافد المدرسة حرق بعض سيارت شرطة من نوع ستروين فوركونيت ريدو سيارت امن نوع4شوفو فياط 500 وبعدها عادت الامور لحالها يوم مقتل شيخ لعرب بسيدي عثمان والبحت عن بلبصري احمد ومن هاد المنبر احي بعض المعلمين وبحرارة ان كانو بالحيات نشكرهم جزيل شكر على متابرتهم وعملهم بتفا ني ان ماتو الله يرحمهم ويجعل عملهم اتجاه تلامذهم في لميزان لمقبول يارب سيد احميتو سيد شوقي سيد افرياط سيد الفنان الحالي ابلغه سلامي وتحياتي اكن له الاحترام السيد احمد سعري من تلميد مجتهد

    ردحذف
  4. 153 - بنحمو الأحد 31 مارس 2013 -
    عشت الفترة و أنا تلميذ لا يزيد عمري عن 15 سنة, و بعيدا عن الدارالبيضاء باكثر من 300 كلم.
    يوم 22 أو 23 مارس 65 غادرنا الإعدادية في تظاهرة متجهين نحو مركم إداري وسط المدينة.الصورة التي لن تفارقني هي أن الكبار الذين حكمت عليهم المذكرة المشؤومة بمغادرة التعليم كانوا محلقي الرأس كلهم تنديدا بما أطالهم من حيف..أما صور العنف فلم يكن بمستوى ما جرى في دروب البيضايين, والذي سيكون مؤثرا فينا وفي جميع سكان المدينة على صغرها.فأينما إتجهت تجد الناس لا يتكلمون إلا على ما جرى في البيضاء.
    غير أن ما يعز في نفس كل مدرس- وقد أصبحت منهم بعد سنوات- ليس ما جاء في المقال عن أن الملك الراحل حمٌل المسؤولية إلى رجال التعليم وقال:"هل تريدون من المغاربة أن يأكلوا أقلامهم",أي أن الدولة لا يهمها التعليم إذا كان الدقيق موجود,بل المؤسف له أن الأحداث ستتكاثر,وخطاب الدولة إتجاه المدرسين بجميع فئاتهم سيصبح تنديدا بهم وبدورهم التربوي, حيث نعتوا في إحدى الخطب ب"أشباه المثقفين".تلك كانت الضربة القاضية للتعليم ولأطره التي أصبحت تغادره فوجا بعد فوج إلى القضاء والمحاماة ومؤسسات عمومية أخرى..واستمر النزيف لعشرات السنين...

    ردحذف
  5. 152 - معطل غير كفئ الأحد 31 مارس 2013
    لم يكتفي هدا النظام بالحكم على الالاف بحرمانهم من التعليم بل زاد عن دلك بازهاق ارواحهم ليثبت لنا ان هدا النظام لا يرى في المغاربة الا عبيد عليهم طاعته او فان حكمهم سيكون الموت او النفي او غياهيب السجون ولازالت هده السياسة تمارس وان بشكل اخر اد كيف يحكم على الالاف الشباب بالحرمان بحقهم في الشغل والعيش الكريم وتركهم عرضة للمجهول اهدا هو النظام الي يطلب من المغاربة فتح صفحة جديدة معه

    ردحذف
  6. الانتفاضات الشعبية التي عرفها المغرب في عهد ملكين
    المساء نشر في المساء يوم 22 - 06 - 2008


    انتفاضة 1965
    عرفت مدينة الدار البيضاء انتفاضة صاخبة أيام 22 و23 و24 مارس 1965، وكانت الشرارة التي فجرت الغضب الشعبي هي قرارات وزير التعليم آنذاك، يوسف بلعباس، عبر المذكرة الوزارية والتي بموجبها يمنع كل الأطفال والشباب الذين يفوق سنهم 17 سنة من الالتحاق بالسلك الثاني، من التعليم الثانوي، وبالتالي حرمانهم من اجتياز امتحان شهادة الباكلوريا. وتم التعبير عن رفض ذلك بالإضرابات والمظاهرات التي عمت العديد من الثانويات في البداية، قبل أن تنتقل إلى الشارع العام.
    انتفاضة 1981
    جاءت أحداث 20 يونيو 1981 نتيجة إعلان الحكومة عن زيادات في أثمان المواد الأساسية بالنسبة إلى معيشة المواطنين، ومواجهة الحركة النقابية لهذا الإجراء بإعلان الإضراب يومي 18 و20 يونيو وإصرار السلطات على تكسير الإضراب العام ليوم 20 يونيو بجميع الوسائل بما فيها العنف وإطلاق الرصاص الحي على المضربين والمحتجين. وقد خلف التدخل العنيف لمختلف مصالح الشرطة وللقوات المساعدة والدرك الملكي والجيش الملكي مئات القتلى بالرصاص أو نتيجة اختناقهم بسبب الاكتظاظ في أماكن احتجازهم.
    أحداث الناظور 1984
    في سنة 1984، دخل سكان الريف في صراع غير متكافئ مع الجيش الملكي، بعد أن حدث ذلك أول مرة سنة 1959 حين نزل قرابة 20.000 جندي مغربي بمنطقة الحسيمة ودخلوا في مواجهات مع أبناء المنطقة، حدث ذلك بعد فرض النظام في سنة 1983 على الراغبين في الدخول إلى مليلية دفع مبلغ 100درهم بالنسبة إلى الراجلين و500 درهم بالنسبة إلى أصحاب السيارات، ثم حدث تغيير سنة 1984، حيث تم تعميم مبلغ 100 درهم، وهو ما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي بالإقليم. هذا الوضع هو الذي أدى في النهاية إلى تفجير الانتفاضة، بعد أن اتحد جميع المواطنين ضد هذه السياسة، حيث نزلت الجماهير إلى الشوارع في مسيرات ألفية.
    فاس تنتفض في 1990
    كان إضراب 1990 محصلة تعبئة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل من أجل ممارسة المزيد من الضغط على الحكومة، وجاء في سياق سياسي مطبوع بعدة متغيرات امتدت جغرافيته من فاس إلى طنجة وأكادير ومكناس ومراكش. جمع إضراب 1990 بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، بعد أن تأكد أن الحوار مع حكومة عز الدين العراقي لا يتضمن إلا ووعودا وتعهدات من الصعب تنفيذها بالنظر للوضع الاقتصادي المتأزم. والظاهر أن مشاركة نقابة حزب الاستقلال في الإضراب كانت بمثابة رسالة موجهة إلى وزير أول خرج من رحم حزب علال الفاسي وأصبح يتحمل مسؤولية تنفيذ سياسة من إعداد مؤسسات مالية دولية، وهو الشيء الذي يفسر أن التداول حول المشاركة في الإضراب العام لسنة 1990 لم يتم داخل النقابة بل اتخذته قيادة حزب الاستقلال.
    انتفاضة آيت باعمران 2008
    في صبيحة يوم السبت 7 يونيو الجاري، استيقظت ساكنة سيدي إفني على وقع هجوم غير مسبوق من طرف قوات الأمن العمومية التي تدخلت لفض اعتصام أقامه العشرات من شباب المنطقة احتجاجا على حالة البطالة التي يرزحون تحت وطأتها، إلى جانب محاصرة متضررين لميناء المدينة. جوبه هجوم القوات المتدخلة بمحاولة المتظاهرين الدفاع عن أنفسهم وكذلك فعل السكان في كل الأحياء، لكن الكثرة العددية لقوات الأمن (أكثر من 4000 عنصر) فرضت على المتظاهرين اللجوء إلى الجبال المجاورة بعد مطاردتهم، فقد تم استقدام جحافل كثيرة من مختلف قوات القمع التي حاصرت كل مخارج المدينة، وعملت بكل أساليبها من اقتحام المنازل وقامت باعتقالات عشوائية واحتجاز أسر المناضلين والتهديد بالاغتصاب واستعمال القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، كل ذلك من أجل إخماد انتفاضة قبائل آيت باعمران.

    ردحذف