المتابعون

الأحد، 6 ديسمبر 2015

أحداث 1958/ 1959 بالريف

أحداث 1958/ 1959 بالريف
بين الذاكرة والتاريخ *

[​IMG]

محمد الخمليشي

تشير بعض الإحداثيات المتناثرة، إلى أن أحداث الريف 1958-1959 كان مردُّّها إلى ردَّة فعل سياسية عقب استقلال المغرب. والآن، وبعد أزيد من خمسة عقود من تلك الأحداث أضحت موضوعاً للذاكرة والتاريخ. وظلت حتى الآن هاجساً سياسياً وثقافياً
فأما التاريخ، وقد شحَّ عن تسجيل أحداث 1958-1959، أفليس هو العلم المحايد المؤهل لاستحضارها كموضوع للمعرفة العلمية؟
وكيف يمكن إعمال انتقال إلى عدالة في الحاضر والمستقبل المحلي أو الجهوي والوطني..؟
أم أن عنف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ظل قوَامَ السياسي والإيديولوجي السائد كسلطة تجتهد في تحصين آليات خطاب العنف والترهيب ذاته، في انتقاء الأحداث والمشاهد والخطابات، بما فيها كتابة التاريخ بالتخفي والتشويه والتمويه والتشبيح، بل وبالصمت؟
ألم يكن التاريخ تلميعاً لواجهة السلطان، عندما كان مؤرخ المملكة، و"ذاكرة ملك" ، تملأ فراغ النسيان والصمت الذي يتركه شبه الغياب لفعل التأريخ الأكاديمي؟
وهل يمكن استحضار الوثيقة والتقرير والأرشيف الرسمي.. والذاكرات الفردية المكبوتة أو الواعية، بما يمكن من تَلحيم، أو إدماج تلك الأفعال والأحداث في نسق تفسيري منسجم، في بناء نظري معقلن ومرتب؟

تاريـــخ:

لعلها أسئلة تستدعي بادئ الأمر، إعادة البناء للحدث المعني من خلال رصد التمثُّلات والتصورات الراهنة. فتاريخ الأحداث، بما فيها أحداث الريف، هي بناء إشكالي لا يكتمل.. لأنها لم تعد الأحداث عينها. لكنها أبقت على الأثر مبثوثاً في الرواية الشفوية، وأرشيف مغيب... وأمكنة اعتقال وتصفيات جسدية... ومقالات صحفية وتقارير لجهات معنية ( جريدة العلم، عبد السلام حادوش..)؛ مما يعني أن إعادة بناء تاريخ 58-1959 يفترض اعتماد منهج حفري، تجاه موضوع لا زال يقدم نفسه، من جهة بصيغة تتداخل فيه الذات العارفة بالموضوع. ومن جهة أخرى فهو موضوع ظاهر وخفي؛ إنه طبقات جينيالوجية مترسبة. لم تعد اللحظة المعنية تُبرزُ من الحدث إلا صوراً وتمثلات شاحبة، مدفوعة بعيداً وقسراً نحو التخفي والتجلي على سطح مرآة منطقة اللاشعور الفردي والجمعي. وكذلك إلى صيغ من المراقبة والعقاب التي اعتمدتها سلطة نُظُم إنتاج الخطابات التاريخية والثقافية والسياسية.
بهذا المعنى قد يكون مفيداً مقاربة أحداث 58-1959: أفليست هي ذاتها التي حملت من الأسماء متناقضاتها، تناقض واختلاف الأطراف المتورطة والفاعلة فيها: انتفاضة الريف، الحركة العصيان، عام إقبارن، الفوضى، مؤامرة المخزن، الريفوبليك، مؤامرة الحركة الشعبية، حركة الانفصال، الثورة ضد تسلط حزب الاستقلال..
وبعيداً عن هذا التعدُّد في التسميات، المفرط في النسبية، تفيد بعض الوثائق والشواهد أن أحداث الريف المعنية اتخذت أسلوب عصيان مدني، مُؤطَّر كحركة من قبل نخب متصلة برهانات الاستقلال الوطني؛ إذ قدمت قيادتُها مطالبَ مُستعجلة إلى القصر في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر سنة 1958، في ثمانية عشر(18) مطلباً من بينها:
- تأسيس حكومة وحدة وطنية تمثل كل الجهات المغربية؛
- ضرورة عودة محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته إلى أرض الوطن؛
وإقامة نظام ديمقراطي يحقق رغبات الشعب في ميادين الاقتصاد والسياسة والتعليم وغير ذلك؛
وفي المقابل فإن الجيش النظامي سيحاصر منطقة الريف جوا وبرا وبحرا مستخدما مختلف آليات العنف العسكرية والمعدات الحربية المتوفرة آنذاك.
حدثت الانتفاضة، بعد لحظة الاستقلال الوطني 1956، الذي ظل مبتغى شعبياً ، وهدفَ جُل النخب في المغرب بمن فيهم الريفيون الذين تقاسموا مع غيرهم "رؤية محمد الخامس في القمر". وكأن الأمر علامة على طوبى الانفراج من الأزمة، وبداية التمكن من الحق في تقرير المصير وتَلَمُّسَ صيغ بناء الوطن الواحد، لكل جماعاته ومواطنيه.
غير أن الدولة، المستقلةَ حديثاً، قامت بإجراءات خلقت استياء عميقا في نفوس الريفيين، وخاب ضنهم في عدالة انتقالية آنذاك، وبالخصوص تجاه السُُّلط الجديدة الحاكمة؛ بعد ما فرضت هذه الأخيرة رسوم ثقيلة على الفلاحين الصغار وضرائب على الممتلكات. كما استبدلت الاسبانية بالفرنسية كلغة للإدارة والمدرسة إلى جانب العربية، واحتكر موظفو الدولة الذين كانوا ينتمون إلى منطقة الحماية الفرنسية الوظائف السامية.
يؤكد "محمد سلام أمزيان" في هذا الصدد، أنه حينما غادر السجن ووصل إلى الريف، وجد الريفيين على وشك الانفجار بسبب إجحاف الإدارة وسياسة الإقصاء المتعمدة من طرف الحكام الجدد. ويقول واصفا تلك الظروف الحرجة: " لقد وجدنا أن كل الملابسات تدعونا للقيام بهذه الحركة لإنقاذ الريف، وإلا فسوف لن يرحمنا التاريخ والأجيال الصاعدة".
لعله الإحباط التاريخي!... الذي قد يمتد بعيداً في التاريخ، إلى مواجهات ضدَّ التحالف القشتالي، الذي جمع الثالوث المقدس بين الإقطاع والتاج والكنيسة منذ 1492، لحظة سقوط غرناطة وبداية طرد العرب والأمازيغ المسلمين والموريسكيين واليهود من الأندلس. فبالموازاة مع فتح مناجم الذهب في أمريكا، ستحاصر اسبانيا الريفَ جيوستراتيجياً، عبر البحر الأبيض المتوسط باحتلال مليلية وسبتة وعديد من الجزر المحاذية لشواطئه، منذ القرن الخامس عشر سيستبدل كل الغرب الأوروبي قنوات التواصل الحضاري والتجاري من المتوسط والصحراء إلى المحيط الأطلسي. ويستمر الحصار؛ حصار الريف طيلة المنتصف الأول من القرن العشرين.. من البحر شمالا، ومن استعمار فرنسي جنوباً.
سيزيد الجفاف للسنوات العجاف في حدة الحصار، لتزداد الوضعية سوءً، لتترك للفرج فرصة للُّجوء وللهجرة ، شرقاً نحو الجزائر وغرباً نحو طنجة. كما كانت الحرب الأهلية الاسبانية(1936-1939)، منفذاً آخر لتوريط وتجنيد مئات الآلاف من الرجال والفتيان لخوض حرب بالنيابة عن الإخوة الأعداء.
تجاه كل ذلك تَمَثَّلَت الحركات التحررية في الريف، من خلال بعض علاماتها الرمزية كمحمد الشريف أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي و محمد أخمليش وغيرهم كثير من رجال ونساء وجنود مجهولين... عناوينَ رفض وممانعة مقاومة للاستعمار الاسباني؛ فالمقاومة الريفية ظلت تسعى إلى التحرر وتقرير مصيرها، في بناء وتنمية نهضتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، مروراً بعشرينات القرن الماضي حتى أواسطه، بالتماهي مع قيم الحقوق الإنسانية في التحرر وتقرير المصير وتسييد العدالة..
فلا غرابة إذن، إن ارتبطت أحداث الريف بحركات التحرر في الجهة العربية وإفريقيا وكل العالم. إن عبد الكريم الخطابي الذي كان على صلة وثيقة بأحداث الريف 58-1959 ، بمجرد نزوله في مصر، التف حوله قادة النضال الوطني في أقطار الشمال الأفريقي، ونصبوه رئيسا للجنة تحرير المغرب العربي، رغبة في اكتساب مساندة جميع أقطار الشرق، بهذا المفهوم وجد في ثور الضباط الأحرار ما يحمسه للتحالف مع هذه الحركة الجديدة، باعتبار الحركة القومية الناصرية قوة مضافة إلى الحركة المناهضة للاستعمار.

ذاكــــرة :

كيف تحضرنا الآن ذاكرة أحداث 58-1959؟ هل بصيغة المفرد أم بصيغة الذاكرة الجماعية؟
لعل الذاكرة تحيل على الفردي الإنساني، وعندما تكون جمعية فإنها تصبح استعارةً تنقل المعنى من مرجعيته الأصلية؛ من الكائن البيولوجي والنفسي إلى كينونة الجماعة الإنسانية. ذاكرة أحداث 58/1959 إذن، هي تلك التجربة المعاشة حديثاً، وبالأحرى في الحاضر . فهي لا زالت محمولة من قبل أفراد وجماعات حية.

ذاكرة بصيغة المفرد

كنت صغيراً، أسكن مع عائلتي بالحسيمة، بيتً يتقاطع فيه شارعي: شنكيط والقنيطرة. وأنا طفل، ألعب مع أقراني في الظهيرة أو المساء، كانت (اقَبَّارَن) خوذيات الجُند تبدوا وكأنها تزحف، منتظمة في صفوف طويلة. لكنها تبقى بكماء، تدك أحذية الجند امتداد شارع شنكيط بوقع يبعث على الرهبة والخوف، وهي تنزل من جبل سيدي عابد أو تصعد نحوه، بعد أن تكون قد أكملت تداريب الرماية في الجبل. لم نكن ونحن أطفالا نقوى على البقاء في الشارع للتفرج أو تبادل التحايا والورود مع الجنود كما في أفلام الحرب.. كان الاحتماء بمنازلنا سيّدَ المواقف.. ولعل مرد ذلك إلى أصوات الرصاص من حين لآخر هنالك في الجهة المقابلة، إيكار أزوكاغ. فالرصاص النحاسي كان مألوفاً لدينا. كنا نعثر عليه بسهولة.. في الغالب كانت بقايا خرطوشات الرصاص. كنا نلمسه، نتحسس معنى الألم الذي يمكن أن يحدثه عندما ينفذ في اللحم..
الذاكرة قد تحضر إذن، بصيغة المفرد، فهذا الحاضر يجعل منها ذاكرة متكونة ومتطورة، منفتحة على تجارب وسياقات وتوجهات سياسية كانت أو ثقافية. كما أنها تبقى منفتحة على ما تود أن تقوله أو تسمعه المجتمعات. غير أنه إذا كانت الذاكرة ذاتية انتقائية لأحداث دون غيرها، فلأنها تظل منفتحة على التحولات اللاشعورية بكل ما تعنيه من رغبات أو إرادات مكبوتة مهزومة أو منتصرة. وبذلك فهي تبقى وقادرة على الاستيقاظ والظهور المفاجئ، تمنح الوعي بما فيه التاريخي شحنات إيجابية وقويّة .

ذاكرة بصيغة الجمع

اختلفت مواضيع الذاكرة وحتى زوايا النظر إليها. الذاكرة خاضعة للرأي العام، قابلة للتوظيف؛ لكل ما يريد سماعه أو قوله، ولا تكتمل إلا بالتأريخ لإحداثيات المعيش بسياقاته الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ الذاكرة تتحقق بالبوح والسرد والمساءلة الحرة والغير المشروطة. ومن ثمّة إقامة طقوس الجنازة الجماعية بتوجيه من روح الصفح والتسامح. وبذلك فهي تفترض الاحتفاء بها، كما تستعيد الطقوس حكايات الأساطير الماضية بإعادة صياغتها وتحديد تمثُّلاتها في الحاضر ومن أجل غايات في المستقبل.
ضمن هذا السياق يمكن رصد تحقُّقَات الذاكرة الجمعية التي حكمت أو تقاطعت في تأثيث 58-1959 بالريف:
أ- الذهنية الدينية الإسلامية؛ التي تقوم على ثوابت العلاقة التي يرسمها التصور الديني بين مركزية وإطلاقية الله او السماء مقابل نسبية الإنسان الذي استخلف الله على الأرض مؤقتاً. الذاكرة إذن، هي اتباع لوَصَايا السماء: " ذَكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين". وبذلك يمكن تفسير الشواهد (الشاهد) على قبور المسلمين كعلامات متواضعة تنعش ذاكرة القربى وتذكرها في نفس الوقت بمن في السماء وبالمصير المشترك والمطلق.
وحدهم الملوك وأولياء الله، من تبنى لهم الأضرحة.
ب- " الريفُ-وبليك" (Rif-ublique)، اسم مركب، يشير من خلال ملفوظه إلى: الريف من حيث هو اسم عربي يعني البادية، كما يدل على مجال جغرافي تاريخي وسوسيولوجي(شمال المغرب) يضغم "بوبليك" (publique)،الجمهور، في لعبة التماهي المتبادل، عندما يستبدل الإسم république (p) ب: ف(f) الريف. وكأنهما يتمثلان رقصة الانجذاب والعناق والتثاقف، في ملفوظ اسم ثالث غيرالريفية(الأمازيغية) والعربية.
الريفوبليك، هو سبق إصرار وترصد لإقامة تجاور حميمي بين دلالتين:
من جهة، فهو الدلالة التاريخية على أولية الأنساق الديموقراطية والحكامة العادلة في الجماعة القبيلية قبل القرن العشرين. ومن حيث هو تجربة حديثة في التحرر الوطني، ضذاً على أشكال التسلط الاستبدادي الاستعماري أو المخزني منذ نهاية القرن 19 وبداة العشرين.
ومن جهة ثانية، تشير الدلالة إلى الفكرة الجمهورية، كما مثلتها قيم الثورة الفرنسية الأنوارية والحداثية، وحيث يستعيد الجمهور الواسع، سلطته لتقرير مصيره والدفاع عن حقوقه الفردية والجماعية.
إن "الريفوبليك"، المصطلح لا زال خصباً، ولاداً. فهو الذي ظلَّ يدل على تجاور بين دلالتين مترابطتين: بنية المؤسسات القبلية الديموقراطية –الممانعة- لفكرة الجمهورية الحداثية. ويتقاطع في نفس الوقت مع ذهنية دينية وسوسيو ثقافية، محلية، في امتداده في الذاكرة والتاريخ والثقافة؛
لكن لماذا تغيب مقومات كتابة تاريخ وصون ذاكرة جماعية تمتد إلى أحداث 58-1959؟ ألم يفتح موضوع الريف شهية البحث الكولونيالي (الاثنوغرافي والأنتروبولوجي..) في الجامعات الفرنسية والأمركية( دافيد هارث)؟
فهل يعني ذلك الغياب البيّن لأرشيف وتقارير مخابراتية أمنية وعسكرية و صحفية وشواهد شفوية ذات مصداقية تشكل العوائق المعرفية التي تعترض البحث المغربي؟
ولماذا تغيب النصب التذكارية والمتاحف كما في الغرب للاحتفاء وصون الذاكرة؟
أليس النسيان هو السائد؟ أم هو الفقر التعبيري عن قيمة الإنسان عندنا؟
وهل تمكنت هيأة الانصاف والمصالحة كتجربة في العدالة الانتقالية من تلمس سبل كتابة لحظات مفصلية من تاريخ وُصف بأنه ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق