المتابعون

السبت، 28 نوفمبر 2015

شهداء اضراب 20 يونيو 1981

القصة الكاملة لمجزرة «شهداء كوميرة»
نشر في المساء يوم 22 - 06 - 2008

بدأت الدار البيضاء صباحها يوم السبت 20 يونيو 1981 بهدوء شبيه بذاك الذي يسبق العاصفة، المدينة المكتظة المزدحمة دؤوبة الحركة، وأصبحت كما لو كانت مدينة شبح: المعامل خالية من العمال، المتاجر مغلقة، ووسائل النقل العمومي توقفت عن التجول في شوارع المدينة. ليس هذا عيد فطر ولا عيد أضحى، بل هو يوم الإضراب.
الدعوة إلى هذا الإضراب جاءت من نقابة «فتية» هي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والهدف إجبار الدولة على إلغاء الزيادات في أسعار المواد الأساسية التي أعلن عنها رسميا يوم 28 ماي من نفس السنة. وسكون الدار البيضاء، المدينة التي تضم الجزء الأكبر من «الطبقة العاملة» بالمملكة، قد يعني شيئا واحدا: نجاح الإضراب. وهذا النجاح بدوره ستتم قراءته بطريقة عكسية، أي كفشل لأجهزة الدولة وإدارتها الترابية، والتي قد تكون جازفت بطمأنة سلطاتها العليا بتحكمها في زمام الأمور، وأخبرتها بأنها وحدها من يملك زمام الشارع، وأن قوة أخرى لا تستطيع منع دواليب المملكة من دورانها المعتاد.
فكيف يعقل أن جولات المقدمين والشيوخ ليلة الإضراب لتوزيع الأوامر ب «العمل» بجد يوم الإضراب، لم تثمر شيئا؟ وكيف يعقل أن التجار الصغار والمتوسطين استجابوا لدعوة العمال بشل حركة البلاد؟ وكيف أن عسكرة المدينة عشية الإضراب ونشر الآلاف من رجال مختلف الأجهزة الأمنية لم يقنع المضربين بالعدول عن الفكرة؟
فمع أولى التحركات الاحتجاجية، أخرجت القوات العمومية آلتها القمعية، رافعة حالة التأهب كما لو كانت في حرب. هذا القمع سرعان ما كان له مفعول عكسي، فبدل بث الرهبة والخوف في نفوس الساكنة، أثار غضبهم وأشعل فتيل مواجهات وأعمال عنف وتخريب. بالمقابل، ومنذ صباح اليوم الأول للإضراب، كانت مقرات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل محاصرة ومحتلة من قبل رجال الأمن، وقيادة النقابة في حالة اعتقال، على رأسهم الكاتب العام نوبير الأموي، الذي تم استدعاؤه إلى مكتب عامل المدينة، ليحتجز هناك. والتجمعات الخطابية التقليدية في مثل هذه المناسبات محظورة.
ذات السيناريو عم باقي مدن المملكة، تأهب أمني واستنفار لقوات القمع، ثم محاصرة للمكاتب الجهوية للكونفدرالية واعتقال للمسؤولين المحليين. وخلال كل ذلك، كان لدى القوات المنتشرة أمر بإطلاق الرصاص الحي في حال اندلاع المواجهات. وكانت قمة التوتر بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، التي عاشت حالة طوارئ إلى غاية 23 يونيو، تخللتها جرائم ومذابح ضد المدنيين.
الحصيلة الحقيقية والدقيقة لما جرى ظلت في علم الغيب، فلجنة تقصي الحقائق التي طالبت المعارضة الاتحادية بإنشائها تم رفضها، بدعوى أن الدستور لا يخول للبرلمان ذلك، رغم أن لجنة تقصي الحقائق في قضية امتحانات الباكالوريا لم تكن ببعيدة، ووسائل المراقبة الدولية والرصد الإعلامي تم تحييدها ومنعها من تغطية الأحداث، بدءا من صحافة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الصحافة الدولية، وأعمال هيئة الإنصاف والمصالحة لم تشمل التحقيق في مثل هذه الأحداث وجرد لوائح الضحايا والبحث في حقيقة المقابر الجماعية.
من كانوا في خندق المعارضة آنذاك، يقولون إن أكثر من 600 مغربي قتل إلى غاية ظهيرة يوم الأحد 21 يونيو 1981، ضمنهم عدد كبير من الأطفال. رقم أيده أحد المحامين الفرنسيين (مينيار) الذي كلفته الجمعية الدولية لحقوق الإنسان بالتحقيق في الموضوع، مدققا أن عدد القتلى هو 637 ضحية، بالإضافة إلى قرابة خمسة آلاف جريح وعشرين ألف موقوف، ألفان منهم سيحالون على القضاء، نالوا أحكاما بلغت عشر سنوات سجنا.
وفي الشق السياسي، كان من بين المعتقلين مائتان وأربعة وثمانون من أعضاء وقيادتي كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ضمنهم اثنا عشر من أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية للاتحاد، وخمسة أعضاء للمكتب التنفيذي للكونفدرالية، وثلاثة وعشرون مسؤولا وطنيا...
الثورة في رحم الإضراب
«هل الإضراب معناه أنه هو المظهر الوحيد الذي يمكن أن نعبر به عن تذمرنا؟ وهل الإضراب معناه أنه يجب أن يشمل جميع قطاعات الدولة دفعة واحدة؟ هل مفهوم الإضراب أن الدولة في جهة والمضربين في جهة؟ لا أظن ذلك، أظن شخصيا أن القانون الأساسي للإضراب هو أولا الحوار، فإذا لم تحصل نتيجة عن الحوار يقع الإنذار...»، يقول الملك الراحل الحسن الثاني. لذلك لم يكن مقتنعا بوجود أسباب «كافية» لإعلان الإضراب العام.
لكن المغرب في أعين من قرروا شل الحركة الاقتصادية في ذلك اليوم الدموي، كان بلد الأزمة الاقتصادية المستفحلة والفوارق الطبقية، وكان برأيهم من الواجب الجلوس إلى طاولة المفاوضات إن أرادت الدولة الحفاظ على التوازن الاجتماعي. وفي وثيقة للمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول أحداث 1981، يعتبر الحزب أن الكنفدرالية تمكنت من إرغام النظام على الدخول في حوار حول المطالب الاجتماعية والعمالية.
أول فصول ذلك الحوار جرت شهر فبراير 1979، أي مباشرة بعد تأسيس المركزية النقابية الجديدة. حوار رافقته حملة اعتقالات في صفوف القادة النقابيين. لترفع الكنفدرالية شهر مارس من السنة نفسها، مذكرة إلى الوزير الأول ضمنتها مطالبها الأساسية:
احترام الحريات النقابية
تطبيق السلم المتحرك للأجور والأسعار
الزيادة في الأجور
رفع الحد الأدنى للأجور إلى ألف درهم
لم تتم الإجابة رسميا عن تلك المذكرة، وتمت بالمقابل، شهر ماي من نفس العام، الزيادة في الأجور بنسبة ضعيفة لم تشمل الجميع، كما تم الرفع من الحد الأدنى دون أن يشمل القطاع الخاص والمؤسسات شبه العمومية. وهذا الإجراء الأحادي الجانب بدوره كان مسبوقا بحملة اعتقالات وطرد للمئات ممن شاركوا في إضراب في قطاعي التعليم والصحة يومي 10 و11 أبريل 1979. وخلال العامين 1979 و1980، بدأ مسلسل ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وارتفع مؤشر كلفة المعيشة ب38 في المائة، ما حدا بالكونفدرالية إلى مطالبة الحكومة بالرفع من الأجور ومباشرة الحوار المجمد، لترفع مذكرة جديدة إلى الوزير الأول في 25 أبريل 1981، مطالبة إياه بفتح الحوار واحترام الحريات النقابية.
جواب الحكومة لم يكن مجرد الصمت حيال تلك المذكرة، بل كان عن طريق البيان الشهير الذي بثته وكالة الأنباء الرسمية في 28 ماي 1981، والذي جاء حاملا لنبأ الزيادة في سعر المواد الأساسية، بمعدلات قياسية، إذا أضيفت إلى الزيادات التي سجلت في السنتين السابقتين، تكون النتيجة كالتالي:
السكر: 112 في المائة
الزيت: 107 في المائة
الحليب: 200 في المائة
الزبدة: 246 في المائة
الدقيق: 185 في المائة
التحرك الأول سيأتي من حزب عبد الرحيم بوعبيد، إذ سارعت اللجنة المركزية للحزب إلى إصدار بيان يوم 31 ماي، اعتبر أن الوضع بالمغرب بلغ مستوى غير مسبوق من الأزمة، وطالب الحكومة بالتراجع عن هذه الزيادات، محملا إياها مسؤولية ما قد يترتب عنها. وأمام اللجنة، قال الأمين العام للحزب، إنه لم يسبق اتخاذ قرارات بهذه الخطورة بكل هذا التساهل والتعسف.
النقابة التابعة لحزب بوعبيد لم تتأخر بدورها في التحرك، وبثت نداء إلى الشغيلة المغربية يوم 2 يونيو، داعية إياها إلى التعبئة الشاملة لحمل الحكومة على التراجع عن تلك الزيادات. بينما كان الفريق الاتحادي في البرلمان يحاول الضغط على الحكومة ومساءلتها عما أقدمت عليه، فكان الرد تحت قبة البرلمان، أن حكومة صاحب الجلالة تعتزم إعلان زيادات أخرى، لأن صناديق الدولة في أزمة. وتحت وقع هذه الصدمة، التقى الوزير الأول المعطي بوعبيد، برلمانيي حزب عبد الرحيم بوعبيد يوم 5 يونيو، وأصدر غداة ذلك بيانا أعلن فيه تخفيض الزيادات الأخيرة إلى النصف، يومين بعد إعلان وزير المالية قرب اتخاذ زيادات أخرى، «ما يعكس المستوى الكبير للتساهل الذي تتعامل به الحكومة مع الموضوع»، تقول وثيقة داخلية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
تنتقل المبادرة مرة أخرى إلى الجناح النقابي، باجتماع المجلس الوطني للكونفدرالية يوم 7 يونيو، وإصدار بيان بمطالب واضحة وصارمة: إلغاء الزيادات الأخيرة في أجل سبعة أيام، وفتح حوار فوري حول الملف النقابي. والنقابة «مستعدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة في حال تشبث الحكومة بقراراتها»، وتحملها كامل المسؤولية عما يمكن أن يترتب عن ذلك (التحذير مرة أخرى). وفي اليوم الموالي، عقد الكاتب العام للنقابة، نوبير الأموي، ندوة صحفية تناول فيها الأوضاع الاجتماعية المتأزمة.
مهلة الأسبوع التي حددتها الكونفدرالية انصرمت دون تلقي أي رد حكومي، فدعت المركزية التابعة لحزب عبد الرحيم بوعبيد باقي المركزيات إلى التحرك المشترك، فلم تلق تجاوبا، لتعلن في 15 من يونيو، اعتزامها خوض إضراب عام لمدة أربع وعشرين ساعة، في العشرين من الشهر نفسه.
في 16 يونيو، يعلن الاتحاد الجهوي للدار البيضاء، التابع للاتحاد المغربي للشغل، إضرابا بمدينة الدار البيضاء يوم 18 يونيو، مبادرة تلقفتها الكونفدرالية بإعلانها إضرابا مماثلا يشل مدينة الدار البيضاء، كخطوة تعبوية للإضراب العام المرتقب يوم السبت 20 يونيو. وفي ردهات البرلمان، كانت المعركة حامية بدورها، حيث وضع الفريق الاتحادي مشروع قانون يقضي بإلغاء الزيادات الأخيرة في الأسعار، ويتخذ إجراءات استعجالية لدرء خطر الانفجار الاجتماعي، دون أن تلقى المبادرة صدى من نواب الأحزاب الأخرى. فلم يبق أمام البلاد سوى الاستعداد ليوم السبت 20 يونيو، يوم الإضراب العام.
مجزرة «شهداء كوميرة»
«الأمر ليس بخطير كتظاهر، ولكن الأعمال بالعكس كانت خطيرة، لأنها مست ممتلكات المواطنين وأملاك الدولة... إن هؤلاء الأطفال كانوا في عطلة مدرسية، فحُرضوا على إلقاء الحجارة، والأطفال لا يرحمون كما يقول المثل. لقد بدؤوا برمي الحجارة ثم تلاهم أفراد معروفون ألقي عليهم القبض...»، يقول الراحل الحسن الثاني في ندوة صحفية. وحسب الرواية الرسمية الحكومية، فإن الإضراب كان فاشلا أولا، والسلطات لم تتدخل لمنع تنظيمه واحترامه ثانيا، ثم إنه لم يسقط في تلك الأحداث سوى 66 مشاغبا من «شهداء كوميرة»، بتعبير وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، كما أن الجيش لم يتدخل إذ لم تكن هناك حاجة لذلك، طالما أن الدولة كانت حريصة على ممارسة الحريات النقابية. أما من دعوا إلى شل اقتصاد البلاد، فإنهم محرضون ومتآمرون، ومتواطئون مع أياد خارجية تعرف أن المملكة كانت مقبلة على مؤتمر نيروبي الحاسم في ملف الصحراء... تلك رواية من يملكون سلطة القول.
الوثيقة التي بين أيدي «المساء» أنجزها المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وتقدم ردودا دقيقة ومفصلة عن كل محاور أطروحة الدولة، وبجوار الرأي الحزبي المنحاز بطبيعته، نجد وثائق وشهادات أخرى، وطنية ودولية. فهل نجح الإضراب أم فشل؟
الإضراب ناجح... الإضراب فاشل..
رفاق عبد الرحيم بوعبيد يحتكمون في أمر نجاح الإضراب من فشله، (نجاح الإضراب يقاس بدرجة الاستجابة له والامتناع عن العمل)، إلى «الذاكرة الشعبية»، ويعتبرون أن هذه الأخيرة باتت تختزن عن يوم 20 يونيو 1981، ذكرى يوم تاريخي بصم الحياة السياسية والاجتماعية للمغرب الحديث. ويعتبرون أنه شكل لحظة فارقة في تاريخ الإضرابات بالمغرب، والدليل هو التوقف الشامل لكل الأنشطة اليومية المرتبطة بالإنتاج، من المقاولات الصناعية والمؤسسات العمومية إلى المتاجر الصغيرة والمتوسطة. وهذه المشاركة الواسعة كانت مؤطرة تنظيميا، من خلال انخراط النقابة الوطنية للتجار الصغار والمتوسطين، والنقابة الوطنية للتعليم العالي، والاتحاد الوطني للمهندسين...
مؤشر آخر على نجاح الإضراب برأي معلنيه، تلك الحملة الواسعة للاعتقالات والمضايقات التي شملت قيادات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وطنيا ومحليا، بعد أن كان هؤلاء مجتمعين في مقرات النقابة لمتابعة أطوار اليوم الاحتجاجي، إضافة إلى استعدادات المغاربة ليوم الإضراب، من خلال الاصطفاف في طوابير طويلة مساء يوم الجمعة، أي عشية الإضراب، أمام محلات بيع المواد الأساسية والمخابز...
دور المقدمون والشيوخ
منذ انعقاد المجلس الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، أياما قبل موعد الإضراب، تمت محاصرة المقر المركزي للنقابة، ووضعت مقراتها الجهوية تحت المراقبة الصارمة. وفي عدد يوم التاسع من يونيو لجريدة «المحرر» الناطقة باسم حزب عبد الرحيم بوعبيد، نشرت صورا تظهر الحصار الأمني حول مقر المركزية. وحتى وصول أعضاء الكونفدرالية إلى مقرها المركزي بات شبه محظور. وحملة الاعتقالات بدأت في العاشر من الشهر نفسه في مناطق مختلفة (سيدي بنور، تازة، قلعة السراغنة، الدار البيضاء...)، وبعض المركزيات الأخرى خضعت بدورها لضغط السلطات وشنت حملة مضادة للحث على العمل، أمر أعلنه بكل افتخار وزير الداخلية حينها داخل البرلمان.
عشية يوم الإضراب، كانت أمواج الإذاعة الوطنية تبث بيانا للوزير الأول المعطي بوعبيد، كتب بلغة التهديد والوعيد، تاركا خلفه الفصل 14 من الدستور الذي يتحدث عن حق الإضراب، ليشهر لائحة عقوبات تنتظر المشاركين في الإضراب (طرد، توقيف...) بينما رجال إدريس البصري، من مقدمين وشيوخ وأعوان ورجال السلطة، يتجولون في الدروب والأزقة، وأمر واحد يشمل الجميع: العمل بجد يوم غد، المتاجر مفتوحة ومحطات البنزين في نشاطها العادي تحت طائلة التهديد بالسجن ستة أشهر وسحب رخصة توزيع المحروقات...
الأخ الأكبر للمركزية النقابية، حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كان بدوره في مرمى الأجهزة الرسمية، هذه الأخيرة لم تستسغ إعلان الحزب دعمه الكامل لتحرك النقابة، وانخراطه في حملة مهاجمة وشجب زيادات 28 ماي. ومفعول الغضب الرسمي بدا جليا في تعامل السلطات مع صحافة الحزب، والتي باتت تحت رقابة صارمة ثلاثة أيام قبل الإضراب. فجريدة المحرر التي كانت تبدأ السحب عادة في السادسة مساء، لم تعد تتلقى الإذن بالطبع إلا بعد الثانية صباحا، ما يعني توزيعا فاشلا عمليا.
الدولة تعمل بجد... يوم الإضراب
خيبة أجهزة الدولة الأمنية كانت كبيرة عندما أشرقت شمس يوم السبت 20 يونيو 1981 على مغرب الأشباح. المعامل مغلقة، سائقو وجباة الحافلات يرفضون إخراج عرباتهم من مرائبها، التجار متنازلون عن مداخيل هذا اليوم، والقطاعان العمومي وشبه العمومي في عطلة غير رسمية... وآلة الدولة ترفض الاستسلام. المقدمون والشيوخ يطرقون أبواب التجار ويخرجونهم من بيوتهم نحو محلاتهم، فلا يترددون في فتح أبوابها بأنفسهم، وعربات «جيب» وآلاف الرجال المسلحين يجوبون الشوارع ويستعرضون القوة تحت إشراف مروحيتين عسكريتين تحلقان في سماء البيضاء.
المذبحة...
الإجراءات المستفزة للسلطات ضد مظاهر الإضراب وعسكرة المدينة، جعلت الأجواء مشحونة بكثير من التوتر. غضب الساكنة بدأ في الانتظام في شكل مظاهرات وتجمعات. عند الساعة ال11 صباحا تقريبا، ونتيجة لتوتر الأوضاع، هجم بعض الشبان على إحدى الحافلات، ما أدى إلى توقف الحركة من جديد، ليغادر رجال الأمن المسلحين حافلاتهم استعدادا للمواجهة. المحلات التجارية التي فتحت أبوابها تحت الضغط سرعان ما أقفلت، ومحاولة منها لكبح احتجاجات المواطنين، كانت قوات الأمن تعتقل كل من يوجد خارج بيته. اعتقالات عمياء بالجملة، واستعمال ممنهج للعنف ضد من يصادف عناصر الأمن، أطفال يضربون أمام أعين آبائهم وملاحقة للشبان إلى داخل منازلهم.
على غرار مدن أخرى مثل فاس والرباط ومكناس وطنجة... كانت مسيرات المتظاهرين تتزايد، وفي البيضاء كانت أكبرها في أحياء شعبية مثل الحي المحمدي وسباتة وسيدي البرنوصي... مسيرات تعلن الغضب من محاصرة المدينة وتركز شعاراتها على زيادات 28 ماي.
السلطات لا تنوي تخفيف وطأة الحصار، خاصة مع وصول اللواء الخفيف للتدخل، التابع للدرك الملكي، وأخذت سيارات حاملة لأسلحة رشاشة في التجول داخل المدينة، والعربات المصفحة في توجيه فوهات مدافعها نحو المتظاهرين. وبين الساعة ال11 صباحا و14 بعد الظهر، كانت تلك القوات تكتفي بترهيب السكان واستعراض قوة الدولة، لكن ذلك لم يمنع من تزايد أعداد الخارجين إلى الشوارع والمنضمين إلى المتظاهرين.
الساعة الثانية بعد الظهر، مستشفيات البيضاء تتلقى تعليمات باستنفار الأطباء والممرضين والدخول في حالة تأهب، ليبدأ إطلاق النار في الساعة الثالثة، الأوامر تقضي بإطلاق مكثف للنيران على جموع المحتجين، ورصاصات تستقر بين الأعين وعلى الجانب الأيسر من الصدر.
الساعة الرابعة بعد الظهر، أولى وحدات القوات المسلحة تصل إلى المدينة، وتنطلق في عمليات تمشيط واسعة داخلها، مع إطلاق ممنهج للنيران تجاه المواطنين. بعض الجرحى ينزفون في الشارع دون أن يتلقوا الإسعاف. اعتقالات لا تميز بين طفل وشاب وامرأة. ليحل الليل وسط حظر للتجول ومواصلة لعمليات التمشيط والاعتقال، حيث كان قرابة 10000 شخص محتجزين بفضاء معرض الدار البيضاء، بعد أن امتلأت مراكز الاعتقال ودوائر الشرطة.
شمس يوم الأحد الموالي أشرقت على وحدات عسكرية مصفحة رابضة أمام المؤسسات العمومية بالمدينة، وأخرى تجوب شوارعها كما لو كانت في حرب. احتجاجات السكان لم تهدأ ولم تهدأ معها عمليات القمع والاعتقال، خاصة في الأحياء الشعبية. بعض المعتقلين أخذوا إلى الثكنة العسكرية عين حرودة، حوالي عشرة كيلومترات شمال المدينة، وظروف الاحتجاز تذكر بالمعتقلات الكبرى الشهيرة في «سنوات الرصاص». والحصيلة قادمة من قاموس الحروب، مئات القتلى (637) وآلاف الجرحى (5000)، وجل الذين لقوا حتفهم رميا بالرصاص هم أطفال، والأغلبية المطلقة من المعتقلين تقل أعمارهم عن 18 سنة، حسب صحيفة «ماروك سوار» الرسمية، وحتى الصحفيين الفرنسيين التابعين للتلفزيون الفرنسي تم توقيفهم بينما كانوا يغطون الأحداث.
جهود القوات العمومية سوف تتركز الآن على إخفاء معالم المجزرة، الجثث تجمع من الشوارع وتنتزع من الأسر لكي لا تعاود رؤيتها، المصابون برصاص الجيش والدرك والشرطة «محتجزون» في غرف خاصة بالمستشفيات حتى تختفي آثار ذلك، والعمليات الجراحية تتم بحضور رجال الأمن. وحدات من الجيش تتمركز أمام مستودع الأموات المركزي ومستودع ابن رشد. ومهمة المقدمين والشيوخ الآن، ترهيب أسر الضحايا وحثها على عدم القول بمقتل أبنائها... دون منعهم من إقامة الجنازات وأداء صلواتها في المساجد.
من أشعل الفتيل؟
قبيل منتصف ليلة السبت إلى الأحد، 20-21 يونيو 1981، صدر بيان لوزارة الداخلية يتهم كلا من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بالتحريض على العنف، وبالعجز عن تأطير الإضراب. اتهام تضيفه المعارضة الاتحادية السابقة إلى لائحة تناقضات أطروحة الدولة، وتستدل على ذلك بالتالي:
الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تصدر أي نداء للتظاهر، ومسؤولوها الوطنيون والمحليون مكثوا في مقراتها إلى أن تم اعتقالهم هناك.
لم يتم اعتقال أو توقيف أي من مناضلي الحزب أو النقابة في المظاهرات.
تم شل قدرة النقابة عن الحركة باعتقال كاتبها العام نوبير الأموي على الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم الإضراب، رفقة أعضاء مكتبها التنفيذي، وتمت محاصرة واحتلال مقراتها من طرف قوات الأمن، ما جعلها عاجزة عن أداء مهمتها النقابية.
تم منع صحافة الحزب عمليا صباح يوم الأحد الذي تلا اليوم الدامي، باحتلال مقر جريدة المحرر واعتقال رئيس تحريرها.
أعلى سلطات البلاد متمثلة في الملك، اعترفت بتقصيرها ومسؤوليتها في عدم تأطير بعض الأحياء الشعبية، وعدم إمدادها بالأجهزة الأمنية والقضائية قبل هذه الأحداث...
أين الحقيقة ومن المسؤول؟
ما تلا هذه الأحداث الدامية من محاكمات لقيادات سياسية ونقابية ومنع للصحافة وغيرها من التبعات السياسية، أطنبت أدبيات المعارضة السابقة في تعدادها، والتقارير الدولية في إحصائها. لكن أي وثيقة رسمية أو متفق على اقترابها من حقيقة ما وقع، لم تحصر أعداد الضحايا ولا حجم الخسائر ولا صحة المسؤوليات في إعطاء الأوامر بإعلان الحرب على أطفال ومدنيين راحوا «شهداء كوميرة». ووحدها الصدف وأخطاء في التقدير تكشف بين الفينة والأخرى عن الحفر التي دفنت فيها الجثث، دون أن تأخذ مساطر التحقيق طريقها نحو التأكد من هويات الضحايا وترتيب المسؤوليات.
لكن حقائق أخرى تبقى ثابتة وخلاصات كثيرة تجاور الحقيقة. أولاها ثبوت ضعف المؤسسة البرلمانية في النظام السياسي، وضعف فاعليها الحزبيين، حين عجزت هذه المؤسسة عن رفع تحدي وزير الداخلية السابق وإجباره على القبول بلجنة لتقصي الحقائق، وعجزت مكونات المعارضة في توفير التغطية السياسية لجناحها النقابي، بل إن الحزب بدا تابعا ومنقادا لأجندة النقابة، ومضطرا إلى مسايرتها. ثم إن سلطة أخرى أبدت كامل عجزها وتبعيتها للسلطة التنفيذية المركزية، وهي القضاء، حيث وفر هذا الأخير الغطاء اللازم والكافي بانخراطه في تنفيذ رغبات الدولة وخدمة استراتيجيتها دون أدنى مقاومة أو إعمال لمبادئ المحاكمة العادلة أو فتح للتحقيقات الضرورية لتحديد المسؤوليات.

....................
 20 يونيو 1981 .. حكاية إضراب عام سالت فيه دماء مغربية غزيرة

20 يونيو 1981 .. حكاية إضراب عام سالت فيه دماء مغربية غزيرة

20 يونيو 1981 .. حكاية إضراب عام سالت فيه دماء مغربية غزيرة
كانت المرة الثانية التي تنزل فيها دبابات الجيش إلى شوارع الدار البيضاء من أجل القضاء على احتجاج رأت فيه الدولة تهديداً لمصالحها..فبعد أحداث 23 مارس 1965 التي راح ضحيتها المئات ممّن تظاهروا ضد سياسات تعليمية لوزارة التربية الوطنية، أتت سنة 1981، وبالضبط يوم العشرين من يونيو، ليفتح جرحاً جديداً في الذاكرة المغربية، بعدما اخترق رصاص الجيش وقوات الأمن صدور عدد من ممّن شاركوا في إضراب هزّ أركان الاقتصاد المغربي.
انتفاضة الكوميرا كما أسماها وزير الداخلية الراحل إدريس البصري كنوع من التهكم على ضحاياها، الإضراب الناجح كما اعتبرته قيادات حزبية يسارية ونقابية، والثورة التي لم تنجح كما وصفها بعض المحسوبين على اليسار الراديكالي. تتعدد التسميات، لكن يبقى يوم 20 يونيو 1981، حدثاً سالت فيه دماء مغربية بغزارة، بعدما احتج أصحابها على الزيادات المرتفعة في الأسعار.
كَثرت الأسباب التي أدت إلى إضراب دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في اليوم المذكور، لكنها تبقى مترابطة بينها بشكل كبير، فالمغرب كان يعيش في تلك الفترة أزمة اقتصادية خانقة بعد تراجع إنتاجية الفوسفاط وانخفاض مبيعاته في السوق العالمية، كما سجل الميزان التجاري عجزاً واضحاً، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف حرب الصحراء ضد جبهة البوليساريو.

وزاد تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل كمركزية نقابية جديدة سنة 1978 من لهيب المواجهات النقابية مع الدولة، فقد اعتُقل المئات في إضراب لقطاعي الصحة والتعليم سنة 1979، ورفعت الحكومة الأسعار خلال هذا العام والذي تلاه، لتراسل الكونفدرالية الحكومة بمذكرات تنادي بضرورة الرفع من الأجور واحترام الحريات النقابية، إلا أن الحكومة أجابت الكونفدرالية ببيان شهير كان قطرة أفاضت كأس صبر العديد من المواطنين.
فقد بثت وكالة المغرب العربي للأنباء بيانا للحكومة في 28 ماي 1981 أشارت فيه إلى زيادة جديدة في الأسعار بشكل أكبر من السابق: الدقيق 40%، السكر 50%، الزيت 28%، الحليب 14%، الزبدة 76%. وإذا ما أضفنا هاته النسب إلى زيادات 1979 و1980، فيصل المعدل إلى: السكر 112%، الزيت 107%، الحليب 200 %، الزبدة 246%، الدقيق 185%.

ورغم أن مركزية نقابية أخرى هي الاتحاد المغربي للشغل دعت إلى إضراب جهوي بالدار البيضاء يوم 18 يونيو، إلا أن يوم السبت 20 يونيو الذي حددته الكونفدرالية كإضراب عام في مدن البلاد، كان أكثر قوة، حيث استجابت فئة عريضة من المواطنين، وقاطعوا وظائفهم وأعمالهم، وأغلق التجار دكاكينهم، فظهرت مدن مغربية عديدة كأنها "مدن أشباح" أو مساحات ضربها الطاعون.
الاستجابة الكبيرة لدعوة "ك.د.ش" للإضراب أثار حنق السلطات، فقد فشل أعوان السلطة في ثني المواطنين عن المشاركة في الإضراب رغم توزيعهم لمناشير تحذر من ذلك، ولم تستطع قوات الأمن والجيش المنتشرة في المدن ترهيب المضربين، كما لم ينجح حصار المقر المركزي والمكاتب الجهوية ل"ك.د.ش" واعتقال قيادييها بمن فيهم نوبير الأموي في إنهاء الإضراب.

بدأت أعمال العنف صباح السبت، السبب كما تردّد في مجموعة من وسائل الإعلام، هو هجوم بعض الشباب بالدار البيضاء على حافلة لرجال الأمن. صدرت الأوامر بالاعتقال والتعنيف والاحتجاز في المقاطعات، وبعدها بدأ إطلاق الرصاص، حيث تم تطويق غالبية أحياء العاصمة الاقتصادية التي كانت المسرح الأكبر لعمليات القتل الجماعي.
امتلأت أرضية أحياء من قبيل سيدي البرنوصي والحي المحمدي وعين السبع وابن امسيك وحي الفرح بدماء المواطنين، فرصاص الجيش والأمن كان يستهدف الرأس والصدر والقلب، كي لا تُمنح أية فرصة للضحية من أجل النجاة، خاصة وأن المضربين كانوا قد خرجوا إلى الشارع على شكل مجموعات احتجاجاً على ضغط السلطة عليهم من أجل العودة إلى عملهم.
وحسب ما ذكره شهود عيان، فقد شاركت الدبابات ومروحيتان في عمليات القتل التي استمرت حتى ظهيرة يوم الأحد 21 يونيو. الحصيلة كانت مروعة، رغم محاولة السلطات رمي عددٍ من القتلى في مقابر جماعية، هناك من قال إن بعضهم دُفن وهو لا يزال على قيد الحياة.

وصل عدد المعتقلين إلى الآلاف وهناك من حُكم بعقوبات حسبية طويلة. أما الضحايا فقد تباينت أرقامهم، فالسلطة قالت إنها لا تتجاوز 66 ممّن وصفتهم بالمشاغبين، متحدثة على لسان البصري أن الجيش لم يتدخل وأن الدولة حريصة على احترام الحريات النقابية، بينما أفادت جمعيات حقوقية أن العدد تجاوز 600 قتيل. برّرت الدولة تدخلها بوجود عناصر موالية للخارج تحاول التشويش على لقاء للمغرب في مؤتمر نيروبي حول قضية الصحراء، بينما اعتبرت النقابة ما وقع مجزرة حقيقة في حق المغاربة العزل ضد نجاح الإضراب.
لم يتم تشكيل لجنة لتقصي الحقائق رغم مطالبة المعارضة الاتحادية بذلك، وتم منع وسائل الإعلام الوطنية والدولية من تغطية الحدث، وحتى جهود هيئة الإنصاف والمصالحة، بعد سنوات من الواقعة، لم تحل الكثير من أسرار هذا الملف.
في كل مرة تعلن الحكومة المغربية عن قرار رفع الأسعار، يتذكر الكثير من المغاربة ذلك اليوم المشؤوم الذي أريقت فيه الدماء في صفحة لم تطوَ بعد، ولا زالت تحفل بكثير من النقاشات سواء في بعض وسائل الإعلام المغربية أو في الشبكات الاجتماعية، أو حتى في الميدان السينمائي الذي عرف إخراج فيلم يتحدث عن الواقعة. ف20 يونيو 1981 كان أحد أكثر أيام سنوات الرصاص سواداً، ودليلاً قوياً على وضعية حقوق الإنسان السيئة في عقود خطيرة من تاريخ المغرب الحديث
.........................


حقوقيون وعائلات ضحايا 81 يخلدون ذكرى “شهداء الكوميرا”



نشرت في يونيو 21 2015 
خلد مجموعة من الحقوقيين وعائلات الضحايا من وصفهم إدريس البصري وزير الداخلية حينها ب “شهداء الكوميرا”، الذكرى الرابعة والثلاثين لانتفاضة 20 يونيو من عام 1981، حيث احتشد العشرات أمام قبة البرلمان، مساء السبت 20 يونيو، وعبر المحتجون في الوقفة الإحتجاجية بشعارات تتغنى بثورة 20 يونيو، التي خلفت سقوط مئات الضحايا.
وطالب المحتجون بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، في السجون المغربية، على تنوع قضاياهم وخلفيات اعتقالهم، حيث رفعت صور الناشطين المعتقلين، وعدد من الطلبة والمناضلين المعتقلين والمتابعين في مختلف الملفات.
10985481_976360035742319_4484534366033568920_n
وعرفت المظاهرة، حضور عدد من الوجوه الحقوقية البارزة من بينها، خديجة الرياضي، عبد الحميد امين، وعبد الرزاق الإدريسي، إلى جانب مجموعة من النشطاء، تخليدا لذكرى انتفاضة “20 يونيو”، التي راح ضحيتها العديد من القتلى .

..................................
المغرب: انتفاضة يونيو المجيدة، الأحداث والدروس

جريدة الشيوعي، المغرب
يونيو 2010
نشرت جريدة الشيوعي، في عددها الثالث لشهر يونيو 2010، مقالا حول انتفاضة يونيو 1981 بالدار البيضاء، تخليدا للذكرى 29 لهذه الانتفاضة المجيدة.
الأحـــــــــداث:
بحلول شهر يونيو 2010 تكون قد مرت 29 سنة على انتفاضة 20 يونيو 1981 المجيدة، التي فجرها عمال وفقراء مدينة الدار البيضاء والنواحي ضد سياسة التجويع والفقر. فصباح يوم 28 ماي 1981، أعلنت وكالة المغرب العربي للأنباء اعتزام الحكومة المغربية فرض زيادات صاروخية في كل المواد الأساسية: الدقيق 40%، السكر 50%، الزيت 28%، الحليب 14%، الزبدة 76%، وذلك مباشرة بعد زيادات أخرى كانت سنتا 1979 و1980 قد شهدتها.

انتفاضة جماهير سيدي إفني، مقدمة إنتفاضات مستقبيلة
وقد برر المسئولون آنذاك هذه الزيادات بالحجة المعهودة دائما: الظرفية العالمية وحالة موازنة الدولة وأن هذه الزيادة ضرورية وحتمية اقتصادية، الخ.
كانت الأزمة تلك، دليلا على أزمة النظام الرأسمالي التبعي القائم بالمغرب، الذي لم يحقق للبلاد، بعد عدة عقود من "الاستقلال"، سوى المزيد من التخلف والبطالة والفقر. وحجة أخرى على طفيلية الطبقة السائدة التي تعرض ثروات البلاد لنهب مكثف، وإلى النفقات الهائلة للحرب في الصحراء، التي قدرت آنذاك بمليوني دولار يوميا!
كل هذا كان متواريا إبان فترة الازدهار النسبي للاقتصاد الرأسمالي العالمي، لكن الانحسار الاقتصادي الطويل الذي شهده الاقتصاد العالمي خلال عقد السبعينات، انعكس على المغرب على شكل تدن في مردودية العديد من القطاعات الإنتاجية وفي مقدمتها قطاع الفوسفاط، الذي تقلصت إنتاجيته بنسبة 5,4%، إذ انتقلت في شهر نونبر من أزيد من 26 مليون طن، إلى أقل من 16 مليون طن، إضافة إلى انخفاض مبيعاته في السوق العالمية. كما عرف الميزان التجاري عجزا كبيرا حيث سجل تفاوتا ملحوظا بين قيمة الصادرات (24,4 +%) وقيمة الواردات (33,7+ %). بينما شهد التمويل الخارجي، سنة 1981، تطورا بلغ 55% مقارنة مع سنة 1980، بحيث بلغ 14,2 مليون درهم.
أمام هذا الوضع قرر الحاكمون تعريض العمال والفلاحين وعموم الكادحين للمزيد من التجويع والاستغلال، فطبقت سياسة تقشف قاسية أدت إلى المزيد من ضرب القدرة الشرائية للفقراء وتصاعد البطالة التي بلغت مليون ونصف المليون عند نهاية سنة 1980.
جاءت تلك الإجراءات التقشفية الإجرامية نتيجة لرغبة الطبقة السائدة في تحميل الفقراء والمضطهدين، أي أكثر الفئات هشاشة وانسحاقا، ثقل الأزمة، إذ أن الكادحين هم بطبيعة الحال من عليهم دائما أن يتحملوا تبعات أزمة نظام أعدائهم الطبقيين، في سبيل "المصلحة العامة" و"مصلحة الوطن"، الخ وهي نفس الترهات التي تتردد الآن على مسامعنا والاقتصاد يغرق في مستنقع أزمة عميق، فما أشبه اليوم بالبارحة!
على خلفية هذا الوضع قررت نقابة الاتحاد المغربي للشغل خوض إضراب عام يوم 18 يونيو 1981، ساندته الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، حيث أصدر مكتبها التنفيذي يوم 17 يونيو 1981 بلاغا يدعو فيه الجماهير العمالية إلى المشاركة في إضراب 18 يونيو. لكن حكومة الحسن الثاني تعاملت معه بالتعنت والإصرار على مواصلة حربها الطبقية، مما دفع بالكنفدرالية الديمقراطية للشغل إلى الدعوة إلى إضراب عام وطني يوم 20 يونيو 1981. وقد كان المطلب الجوهري لهذا الإضراب هو: الإلغاء الفوري الكلي والضروري لكل الزيادات التي عرفتها المواد الاستهلاكية الأساسية في 28 ماي 1981.
كان الإضراب ناجحا، فالحركة الاقتصادية في الدار البيضاء شلت بأكملها، حيث توقفت وسائل النقل عن الحركة وتوقفت الآلات في المعامل عن الدوران. طبعا، فالعمال هم من يحركون بسواعدهم كل القطاعات في المجتمع، وبدون قوة عملهم لا يمكن لأي قيمة أن تضاف أو عجلة أن تدور أو آلة أن تتحرك! وقد انخرطت في الإضراب وشاركت فيه النقابات الوطنية للتجار الصغار والمتوسطين والنقابة الوطنية للتعليم العالي والاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
للإضراب العام أهمية عظمى لأنه يساهم في تحسيس العمال بقوتهم وبوحدتهم، ولكونه يطرح على المجتمع سؤال: "من السيد هنا؟ هل مالكو وسائل الإنتاج الطفيليون، الذين لا دور لهم في المجتمع إلا امتصاص دم العمال ومراكمة الثروات على حسابهم، أم الطبقة العاملة؟" كما أنه، وهذا هو الأساس، يطرح بشكل واضح مسألة ازدواجية السلطة. ففي كل إضراب يكمن تنين الثورة.
لقد جاء هذا الإضراب تتويجا لموجة من النضالات الجماهيرية العارمة في العديد من القطاعات والمواقع الإنتاجية الأساسية مثل الفوسفاط، والسكك الحديدية، والنسيج، ومعامل إنتاج السكر، وقطاع الموانئ، والتبغ، والصناعات الحديدية، والبترولية، والغذائية. انضم إليها رجال التعليم والصحة وقطاع الأبناك، والشبيبة المدرسية وطلاب الجامعات والتجار الصغار، كما ساهم الفلاحون في حركة الاحتجاج ضد حرمانهم من الأرض(فلاحو قرية أحد كورت، فلاحو جماعة أولاد سعيد الواد، فلاحو قبائل الأوداية).
وكان النجاح الباهر الذي حققه صفعة مدوية في وجه الطبقة السائدة وكل شعارات "السلم الاجتماعي"، فقرر النظام الدكتاتوري التدخل ليفرض على العمال وأصحاب الدكاكين العودة إلى العمل. فشرعت السلطات في إكراه أصحاب الدكاكين على فتح محلاتهم، وإكراه عمال الحافلات على استئناف عملهم، كما بدأت قوات البوليس في تشتيت الشباب والعمال المجتمعين في الأحياء والمقاهي. لكنها فشلت فانضمت إليها قوات الجيش والدرك الملكي والقوات المساعدة على متن الشاحنات العسكرية والمروحيات.
ارتكبت قوات القمع جرائم كبيرة في حق أبناء الشعب الأعزل، مما دفع بالجماهير إلى تحويل الإضراب إلى تظاهرات شعبية عارمة ضد هذه الاستفزازات وللتعبير عن سخطهم على الأوضاع وضد التجويع والاستبداد. آنذاك صارت شوارع البيضاء في يد الجماهير، التي اجترحت بطولات عظيمة وعبرت عن شجاعة كبيرة في تحدي القمع.
لقد كانت انتفاضة 20 يونيو 1981، من القوة والحدة بحيث جعلت العديد من رجال الأعمال ومختلف الفئات البورجوازية وكذا مسئولين سامين في الدولة يتملكهم الفزع والرعب، ومنهم من كان يستعد للهرب "بأمواله" إلى الخارج.
لو توفر آنذاك حزب ماركسي ثوري، ذو مصداقية في أعين الجماهير، وببرنامج انتقالي واضح، لتم توجيه تلك الطاقة النضالية نحو تشكيل المجالس العمالية والشعبية المنتخبة التي تسهر على تسيير الانتفاضة والمتاريس، ولتمت الدعوة إلى تسليح الجماهير لمواجهة القمع الذي كانت قوى الظلام تحضره ضدها. لو توفر مثل ذلك الحزب لكان من الممكن توسيع مدى الانتفاضة الجماهيرية إلى مدن أخرى، وإلى العاصمة الرباط على وجه الخصوص. كان من الممكن ومن الضروري آنذاك أن يتم التآخي مع الجنود العاديين، أبناء الفلاحين والفقراء، والذين يكتوون هم أيضا بنار الغلاء والقهر، ليوجهوا بنادقهم إلى صدور أعدائهم وأعداء الشعب، وليس إلى صدور الجياع المنتفضين. كما أنه لو توفر مثل ذلك الحزب لكان من الممكن أن تتم الدعوة إلى تضامن عمالي أممي مع المنتفضين، الخ.
لكن مثل ذلك الحزب لم يكن موجودا[1]، مما حكم على الانتفاضة الرائعة بالفشل. تمكنت الدولة البورجوازية من استعادة زمام المبادرة فنظمت حملة قمع دموي رهيب ضد الشعب الأعزل. انطلقت موجة من القتل الجماعي حيث استعملت الذخيرة الحية، استهدف حتى النساء والأطفال الذين كانوا يطلون من أسطح المنازل، واستمر استعمال العنف الدموي إلى حدود يوم 21 يونيو.
لم يكن هؤلاء الكادحون مسلحين، بل لم يكن باستطاعتهم حتى الدفاع عن أنفسهم، لكن بالرغم من ذلك (وفي الواقع بسبب ذلك) شن نظام الحسن الثاني ضدهم حملة قمع دموي بالرصاص الحي.
طوقت قوات الجيش كل الأحياء بمدينة الدار البيضاء بالدبابات والسيارات العسكرية، وكانت أول ضحية سقطت بفعل إطلاق الرصاص طفلة بدرب غلف عمرها 12 سنة، ليبدأ حمام الدم في جل أزقة وشوارع الدار البيضاء. وقد بينت التحريات فيما بعد أن الرصاص كان يستهدف الرأس والصدر والقلب. وقد رمي هؤلاء الشهداء في حفر بشكل جماعي، في مقابر جماعية سرية من بينها ثكنة عسكرية تابعة لرجال المطافئ بالقرب من الحي المحمدي، وتقول بعض التقارير إن بعضهم دفنوا وهم كانوا ما يزالون يئنون من جراحهم.
كانت المجزرة رهيبة وكان عدد الشهداء كبيرا، وقد قدرت الجمعيات الحقوقية عدد القتلى بأزيد من 1000 قتيل، كل مطالبهم ما يكفي من الخبز والحليب لأبنائهم.
هذا إضافة إلى مئات الاختطافات والاعتقالات، حتى وصل عدد المعتقلين إلى حوالي 26 ألف معتقل! اعتقلوا بدون محاكمة وفي شروط لا إنسانية مما أدى إلى موت العديد منهم (قتل العديد من المعتقلين في المقاطعة 46، التي أصبحت فيما بعد مقرا لعمالة سيدي البرنوصي زناتة من جراء الاكتظاظ والتعذيب). ووزعت محاكم الدكتاتور قرونا من السجن على الأبرياء، حيث أن غرفة جنائية واحدة وزعت ما مجموعه 1400 سنة سجنا!!
الــــــــــــــدروس:
ليس سرد الأحداث التي وقعت كافيا في حد ذاته لكي نخلد ذكرى أخواتنا وإخواننا وأبناءنا الذين سقطوا بالمئات يوم 20 يونيو وقبلها وبعدها، كما لا يكفي البكاء أو الشكوى. إن ما ينبغي علينا فعله حقا هو تطبيق وصية سبينوزا الذي قال: "عند حدوث الأمور الجلل لا تضحك لا تبك ولا تشتكي، بل افهم".
إن أعداءنا الطبقيين استخلصوا العديد من الدروس من هذه الانتفاضة، والتي يضيق المجال لذكرها في هذا المقال[2]. ونحن أيضا علينا أن نستخلص الدروس الضرورية لمواصلة النضال من أجل القضاء على نظام الاستغلال والقهر والاستبداد، ومن أجل أن يكون هذا الوطن للجميع. وفي هذا السياق سوف نعمل على الإدلاء ببعض الخطوط العريضة لبعض الدروس التي نرى أنها هامة جدا لمستقبل النضال العمالي الثوري في بلادنا.
إن المرحلة التي نقف على أعتابها هي مرحلة الثورات والثورات المضادة على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني. وبالتالي فإن مسألة استخلاص الدروس ليست ترفا فكريا، بل مهمة جدية وراهنية إلى حد بعيد. ويمكن لكل من ما يزال يشك في هذا الواقع أن ينظر إلى الأمثلة المتتالية التي تقدمها لنا الطبقة العاملة العالمية والشعوب المقهورة في العديد من مناطق العالم: قيرغيستان، تايلاند، اليونان، الخ.
الجيش الذي لا يستفيد من هزائمه ولا يتعلم من أخطاءه محكوم بأن يكررها، وهذا القول الصحيح فيما يتعلق بالحروب بين الجيوش يصدق أيضا على الحروب بين الطبقات، والفرق الوحيد هو أن الهزيمة التي تتكبدها الطبقة العاملة في خضم الصراع الطبقي تكلفها أكثر بكثير من الخسائر التي قد تتكبدها الجيوش المهزومة. تقول الأغنية الشهيرة: أنظر يا رفيقي إلى الدم واعلم أن أيادي الهمجية لا ترحم! وهذا صحيح بشكل تام. إن أيدي الهمجية لا ترحم، فعندما ينهض الفقراء للدفاع عن أنفسهم ضد الاستغلال والقهر يتحرك كل كلاب المجتمع القديم وذئابه المسعورة لسحقهم. فترتكب كل الفضاعات. إن استخلاص الدروس يمكن من تفادي تكرار الأخطاء، فتكون الخسائر قليلة، وتصبح العملية الجراحية الرامية إلى استئصال سرطان الرأسمالية من جسد المجتمع أقل إيلاما.
والجدير بالذكر أن منظمة إلى الأمام كانت قد استخلصت العديد من الدروس من تلك الانتفاضة وهو ما يؤكد عليه الرفيق الصعيب حسن في مقاله الهام "العمل في الأحياء الشعبية تقييم وآفاق". حيث كانت عاملا مهما في بداية تخليص الرفاق من بعض الأخطاء ذات الأصول الماوية التي طالما شكلت الأساس في تصورهم، من قبيل "الكفاح الثوري الجماهيري في مسيرة الحرب الشعبية الطويلة" و"القواعد الحمراء المتحركة"[3]، أي الدعوة إلى الالتحاق بالبوادي لتشكيل "جيش التحرير الشعبي" من الفلاحين وبعض المثقفين الثوريين. الخ. حيث رفعت المنظمة شعارا جديدا هو: "من أجل منظمة ماركسية-لينينية طليعية صلبة ومتجذرة في الطبقة العاملة والفلاحين". يقول الرفيق الصعيب في هذا الصدد: "كان يفترض لإنجاز هذا الشعار وترجمته على أرض الواقع, البحث في كل السبل التي تؤدي إلى ذلك, واستغلال كل الشروط والإمكانيات النضالية المتوفرة التي تفسح المجال وتفتح آفاق العمل للالتصاق بالطبقات الأساسية الكادحة, فبحكم الموقع الطبقي المتميز الذي تحتله الأحياء الشعبية حيث تقطنه جماهير غفيرة من الكادحين والمهمشين واحتياطيا هائلا لجيش العاطلين عن العمل وأشباه البروليتاريا, ونظرا للتواجد المكثف للفئات العمالية والبروليتارية العاملة بالمصانع الكبرى والمتوسطة والصغيرة وورشات الإنتاج الأساسية والموانئ, ارتأت المنظمة في إطار خطتها التكتيكية من أجل الالتصاق بهذه الفئات, تسهيلا لمهمة التجذر وسط الطبقة العاملة, أن يرتبط أطر ومناضلو المنظمة بهذه الجماهير في الأحياء الشعبية والعمل على إفراز طلائع عمالية من خلال الالتحام بهم في صيرورة النضال الطبقي واليومي.
فكانت مهمة العمل في الأحياء الشعبية مهمة مساعدة أو مكملة لمهمة التجذر وسط الطبقة العاملة, أو بعبارة أخرى كتكتيك غير مباشر للارتباط بها." ويؤكد أنه: "لم يحصل التحول النوعي في التوجه للعمل في الأحياء الشعبية برؤية سياسية وإستراتيجية جديدتين إلا مع الانتفاضة الشعبية بالبيضاء في يونيو 1981 حيث أبانت هذه الانتفاضة المجيدة عن طاقات نضالية زاخرة وكبيرة في الأحياء الشعبية, كشكل من أشكال العنف الثوري الجماهيري المنظم.[4]
وعودة إلى سياق حديثنا نقول إن: أول الدروس التي نستخلصها هي أن الجماهير الكادحة من عمال وربات البيوت وصغار التجار والحرفيين، تختزن طاقات هائلة يمكنها إن توفرت القيادة الصحيحة أن تقضي على النظام الرأسمالي القائم بالمغرب. ونخص بالذكر العمال وشباب الأحياء وشباب المدارس والجامعات، الذين شكلوا القوة المحركة للانتفاضة، وبالتالي ينبغي على المناضلين الثوريين أن يولوا هذه الفئة من المضطهدين والمقهورين اهتماما كبيرا، والعمل على الانغراس فيها وتمكينها من بديل ثوري ينقذها
من التدمير الذاتي والمخدرات والسقوط في أيدي المافيا والإرهاب، ويقدم لها قضية نبيلة تعيش من اجلها.
والدرس الثاني الهام جدا هو أن الانتفاضة فن حقيقي، كما كان ماركس ولينين يحبان تسميتها، وليست مجرد نزهة. وبالتالي يجب التعامل معها بكل جدية. ينبغي توفير خطة عمل وبرنامج واضح للمنتفضين. لكن قيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ليس فقط لم يوفروا مثل هذه الخطة وهذا البرنامج، وليس فقط هم عاجزون عن توفيره، بل إنهم فوجئوا هم أيضا بالانتفاضة، التي أخذتهم على حين غرة. فالكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تصدر أي نداء للتظاهر، ومسئولوها الوطنيون والمحليون مكثوا في مقراتها إلى أن تم اعتقالهم هناك. وتفيد التقارير أنه لم يتم اعتقال أو توقيف أي من مناضلي الاتحاد الاشتراكي أو الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في المظاهرات.
ينبغي علينا نحن الماركسيين أن نستعد للانتفاضات المستقبلية بكل جدية، وذلك من خلال صياغة برنامج ثوري واضح، وشعارات مطلبية تكثف مطالب الجماهير على المستوى الاقتصادي والسياسي وتربط النضال من اجلها بالنضال من اجل حسم السلطة السياسية من طرف الطبقة العاملة؛ ينبغي علينا أن نستعد للانتفاضات المستقبلية بالإنغراس في وسط جماهير الطبقة العاملة في المعامل والنقابات والأحياء الفقيرة؛ ينبغي علينا أن نستعد لها بتكوين اطر ثورية من بين الشباب العمالي والفقير، لكي يوفروا القيادة المطلوبة لتوجيه النضال الشعبي نحو النصر.
لقد كان هؤلاء الفقراء الرائعون، هؤلاء الرجال والنساء والشباب والأطفال، الذين خرجوا في شوارع البيضاء يتحدون القمع والطغيان يمتلكون تصورا واضحا عن ما يرفضونه لكنهم لم يكونوا يمتلكون أي تصور عن البديل الذي يناضلون من اجله. لكن مهمة توفير ذلك البديل تقع على كاهل المناضلين العماليين الثوريين.
أما الدرس الثالث فهو كون الإضراب العام يشكل أهم سلاح في يد الطبقة العاملة للدفاع عن نفسها ضد الغلاء والاستغلال. إنه الشكل النضالي الذي يجعل الطبقة العاملة تفهم أنها طبقة قوية فعلا، إذ بتوقفها عن العمل تتوقف كل حركة في المجتمع وتشل كل الأنشطة. الإضراب العام، الذي تخوضه النقابات جميعها شكل أساسي لمواجهة الغلاء والاستغلال والبطالة والاستبداد، وبالتالي ينبغي علينا أن نستمر دائما في الدعوة داخل النقابات وخارجها إلى الرد على كل اعتداء ضد الطبقة العاملة وعموم الكادحين بتنظيم إضراب عام وطني!
لكن مع ذلك علينا أن ننشر الوعي بين العمال بأن الإضراب العام غير كاف، لأنه ليس سوى وسيلة، وليس هدفا في حد ذاته، كما يتوهم الإصلاحيون والفوضويون والعصب. إن الإضراب العام يطرح سؤال من السيد هنا!
ويؤكد على أن الطبقة العاملة إذا قررت أن تتوقف عن العمل فإنه ليس من الممكن لأية عجلة أن تدور، أو دولاب أن يتحرك. لكنه إذ يطرح مسألة السلطة فإنه لا يقدم عنها أية إجابة، مما يستلزم توفر قيادة ثورية ببرنامج انتقالي قادر على تقديم الإجابة عن مسألة السلطة السياسية.
من الضروري مصاحبة الإضراب العام الوطني، خاصة في حالة ارتقاءه إلى انتفاضة ثورية جماهيرية، بتشكيل لجان إضراب، لجان معارك، في الأحياء العمالية والمعامل والمدارس والجامعات، بقيادة موحدة منتخبة ديمقراطيا في جموعات عامة جماهيرية. يجتمع هؤلاء الممثلون المنتخبون ديمقراطيا على صعيد كل مدينة مع ممثلي المدن الأخرى على الصعيد الجهوي والوطني. وتكون مهمتها ليس فقط رفع المطالب بل أيضا وعلى الخصوص التحضير لحسم السلطة الفعلية.
إن ما كان ينقص خلال انتفاضة البيضاء، إضافة إلى الحزب الثوري، هو المجالس العمالية التي في إمكانها تنظيم السيطرة على القطاعات الاقتصادية الحيوية والسلطة السياسية، والتي توجه دعوة إلى عمال وفلاحي باقي أجزاء الوطن إلى الانتفاض، وإلى الجنود العاديين إلى التآخي مع إخوانهم وأخواتهم الفقراء، ثم الدعوة إلى الطبقة العاملة في منطقة المغرب الكبير إلى السير على نفس الدرب من أجل إسقاط أنظمة القهر والتخلف الرأسمالية وبناء فدرالية اشتراكية في منطقة المغرب الكبير، إضافة إلى دعوة إلى الطبقة العاملة العالمية، بدءا من الطبقة العاملة الإسبانية والفرنسية التي تتكون في جزء هام منها من عمال ذوي أصول مغربية ومغاربية، إلى تنظيم التضامن الأممي معها.
الدرس الرابع هو أن علاقة النقابي بالسياسي علاقة وثيقة خاصة في ظل الأنظمة الدكتاتورية فأي مطلب ولو اقتصادي بسيط يصطدم مباشرة بطبيعة النظام الدكتاتوري ويطرح مسألة الحرية السياسية والديمقراطية على الطاولة. مما يفترض طرح برنامج انتقالي، ينطلق من أشد مطالب الجماهير إلحاحا: الغلاء، البطالة، الديمقراطية، الخ ويوسع أفقها.
لقد بدأ النضال على أسس اقتصادية "خالصة" (ضد ارتفاع الأسعار) ثم سرعان ما تحول موضوعيا إلى نضال سياسي، إلى انتفاضة حقيقية ضد الدكتاتورية وجهاز دولتها. لأنه في ظل الأنظمة الدكتاتورية يمكن لأي نضال اقتصادي من حجم معين أن يتجاوز سريعا حدوده الأولى ويتحول إلى نضال سياسي، ضد الحكم الفردي المطلق والاستعباد وضد البوليس، الخ، من اجل الحرية السياسية والحقوق الديمقراطية. لكن القادة النقابيين والسياسيين اليساريين الإصلاحيين لم يكن لهم أي تصور لحسم السلطة السياسية، وبالتالي عندما طرحت مسألة السلطة أحسوا بالرعب من القوى الجبارة التي كانوا السبب العرضي في تحريكها. فضاعت الفرصة واستعادة قوى الظلام والرجعية المبادرة فنظمت المذبحة.
على المناضلين النقابيين الجديين الذين يريدون حقا أن يناضلوا بحزم وتحقيق النصر في نضالهم النقابي، أن يمتلكوا تصورا سياسيا واضحا وبرنامجا علميا معدا بشكل مسبق. لا بد من طرح شعارات سياسية واضحة على جدول أعمال كل إضراب عام، من قبيل: الحرية السياسية، حق التعبير والتنظيم، انتخابات حرة وديمقراطية، الخ. وربطها بالنضال من اجل حسم السلطة السياسية من طرف الطبقة العاملة ومصادرة القطاعات الاقتصادية الكبرى، باعتبار ذلك الضمانة الوحيدة لترسيخ تلك المكاسب وديمومتها.
فلتسقط الدكتاتورية!
فلتسقط الرأسمالية!
عاشت الثورة الاشتراكية!
الهوامش:
[1] رغم وجود منظمة إلى الأمام وبعض المناضلين الثوريين، والذين لعبوا دورا هاما في الانتفاضة وقدموا الكثير من التضحيات.
[2] نكتفي فقط بالإشارة إلى ومن بين أولى الخطوات التي قامت بها الدولة المغربية لمحاصرة مثل هذه التحركات الجماهيرية والتحكم فيها كانت تقسيم مدينة البيضاء إلى أربعة عمالات سنة 1981، ثم خمسة سنة 1985، و6 سنة 1990، الخ.
[3] انظر على سبيل المثال: الوضع الراهن والمهام العاجلة للحركة الماركسية اللينينية.
[4] نقول هذا دون أن ندعي أن إلى الأمام تمكنت من الحسم نهائيا مع تلك الأخطاء، لكن نقاش هذا الموضوع يخرج بالورقة عن مهمتها الأساسية.

هناك تعليق واحد:

  1. قائمة بأسماء ضحايا 20 يونيو 1981 المصنفون خارج الآجال

    الهاتف ر ب ت الإسم الشخصي والعائلي
    B257705 أبو تاج عبد اللطيف
    BH225466 الضعيف نور الدين
    B125425 الذهبي عباس
    BH403679 الخضري أحمد
    B618599 بواشي محمد
    B357024 الزويد عبد الله
    B115464 جماع عبد القادر
    BK83425 بن حسيوة مصطفى
    BJ15490 الدﯕدوﯕي عبد المالك
    BE69232 حميلي يوسف
    BE75952 كشكاش عبد العزيز
    BH18453 بودرار ادريس
    B592467 كريبان حسن
    حنين رشيد
    عمر زاهر
    BJ29393 ادحيم محمد
    BE458508 مرمار اسماعيل
    B127316 علو فاتح
    BE491634 حمدون عبد الكريم
    BJ64731 احديار محمد
    B618657 ناجح حسن
    B103527 محمد كاني
    MA36091 عبد اللطيف الموفيدي
    درب مولاي الشريف الزنقة 30 الرقم9 ح م البيضاء سهام الميلودي
    تاريخ الإيداع 24/5/2006 حي العيون الزنقة48 الرقم21 الدار البيضاء ولال مصطفى
    BJ30981 اقزيبر مصطفى
    B742798 الضعيف عبد الهادي
    BH46739 الإدريسي عبد المولى
    B124332 المصدق محمد
    M36091 موفيدي عبد اللطيف
    BE548985 باعمري بوشعيب
    B18277 شجيع رحال
    مصطفئ جوليا

    قائمة بأسماء ضحايا 20 يونيو 1981 المصنفون خارج الآجال

    الهاتف ر ب ت الإسم الشخصي والعائلي
    B257705 أبو تاج عبد اللطيف
    BH225466 الضعيف نور الدين
    B125425 الذهبي عباس
    BH403679 الخضري أحمد
    B618599 بواشي محمد
    B357024 الزويد عبد الله
    B115464 جماع عبد القادر
    BK83425 بن حسيوة مصطفى
    BJ15490 الدﯕدوﯕي عبد المالك
    BE69232 حميلي يوسف
    BE75952 كشكاش عبد العزيز
    BH18453 بودرار ادريس
    B592467 كريبان حسن
    حنين رشيد
    عمر زاهر
    BJ29393 ادحيم محمد
    BE458508 مرمار اسماعيل
    B127316 علو فاتح
    BE491634 حمدون عبد الكريم
    BJ64731 احديار محمد
    B618657 ناجح حسن
    B103527 محمد كاني
    MA36091 عبد اللطيف الموفيدي
    درب مولاي الشريف الزنقة 30 الرقم9 ح م البيضاء سهام الميلودي
    تاريخ الإيداع 24/5/2006 حي العيون الزنقة48 الرقم21 الدار البيضاء ولال مصطفى
    BJ30981 اقزيبر مصطفى
    B742798 الضعيف عبد الهادي
    BH46739 الإدريسي عبد المولى
    B124332 المصدق محمد
    M36091 موفيدي عبد اللطيف
    BE548985 باعمري بوشعيب
    B18277 شجيع رحال
    مصطفئ جوليا


    قائمة بأسماء ضحايا 20 يونيو 1981 المصنفون خارج الآجال

    الهاتف ر ب ت الإسم الشخصي والعائلي
    B257705 أبو تاج عبد اللطيف
    BH225466 الضعيف نور الدين
    B125425 الذهبي عباس
    BH403679 الخضري أحمد
    B618599 بواشي محمد
    B357024 الزويد عبد الله
    B115464 جماع عبد القادر
    BK83425 بن حسيوة مصطفى
    BJ15490 الدﯕدوﯕي عبد المالك
    BE69232 حميلي يوسف
    BE75952 كشكاش عبد العزيز
    BH18453 بودرار ادريس
    B592467 كريبان حسن
    حنين رشيد
    عمر زاهر
    BJ29393 ادحيم محمد
    BE458508 مرمار اسماعيل
    B127316 علو فاتح
    BE491634 حمدون عبد الكريم
    BJ64731 احديار محمد
    B618657 ناجح حسن
    B103527 محمد كاني
    MA36091 عبد اللطيف الموفيدي
    درب مولاي الشريف الزنقة 30 الرقم9 ح م البيضاء سهام الميلودي
    تاريخ الإيداع 24/5/2006 حي العيون الزنقة48 الرقم21 الدار البيضاء ولال مصطفى
    BJ30981 اقزيبر مصطفى
    B742798 الضعيف عبد الهادي
    BH46739 الإدريسي عبد المولى
    B124332 المصدق محمد
    M36091 موفيدي عبد اللطيف
    BE548985 باعمري بوشعيب
    B18277 شجيع رحال
    مصطفئ جوليا

    ردحذف